مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَازَ قَضَاؤُهُ، وَإِنْ أَوْجَبَ الْفِسْقَ، كَبَغْيِ أَهْلِ النَّهْرَوَانِ، لَمْ يَجُزْ.
قُلْتُ: هَذَا الْمَنْقُولُ عَنْ بَعْضِ الشُّرُوحِ مَشْهُورٌ، قَدْ ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» وَغَيْرُهُ، فَفِي «الْمُهَذَّبِ» أَنَّ قَاضِيَ الْبُغَاةِ إِنْ كَانَ مِمَّنْ يَسْتَبِيحُ دَمَ أَهْلِ الْعَدْلِ وَمَالَهُمْ، لَمْ يُنَفَّذْ حُكْمُهُ؛ لِأَنَّ شَرْطَهُ الْعَدَالَةُ وَالِاجْتِهَادُ، وَهَذَا لَيْسَ بِعَدْلٍ وَلَا مُجْتَهِدٍ، وَقَدْ جَزَمَ الرَّافِعِيُّ فِي «الْمُحَرَّرِ» بِمَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ، فَقَالَ: إِنْ تَعَذَّرَ اجْتِمَاعُ هَذِهِ الشُّرُوطِ، فَوَلَّى سُلْطَانٌ ذُو شَوْكَةٍ فَاسِقًا، أَوْ مُقَلِّدًا، نُفِّذَ قَضَاؤُهُ لِلضَّرُورَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَذُكِرَ أَنَّ الْقَاضِيَ الْعَادِلَ إِذَا اسْتَقْضَاهُ أَمِيرٌ بَاغٍ، أَجَابَهُ إِلَيْهِ، وَنُفِّذَ قَضَاؤُهُ، فَقَدْ سُئِلَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ ذَلِكَ لِمَنِ اسْتَقْضَاهُ زِيَادٌ، فَقَالَتْ: إِنْ لَمْ يَقْضِ لَهُمْ خِيَارُكُمْ قَضَى شِرَارُكُمْ.
فَرْعٌ
مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ لَا يَصِحُّ تَقْلِيدُهُ الْقَضَاءَ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَكَذَا لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ مَنْ لَا يَقُولُ بِالْإِجْمَاعِ، أَوْ لَا يَقُولُ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ، وَكَذَا حُكْمُ نُفَاةِ الْقِيَاسِ الَّذِينَ لَا يَقُولُونَ بِالِاجْتِهَادِ أَصْلًا، بَلْ يَتَّبِعُونَ النُّصُوصَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدُوا أَخَذُوا بِقَوْلِ سَلَفِهِمْ، كَالشِّيعَةِ، فَإِنْ كَانُوا مُجْتَهِدِينَ فِي فَحْوَى الْكَلَامِ، وَيَبْنُونَ الْأَحْكَامَ عَلَى عُمُومِ النُّصُوصِ وَإِشَارَاتِهَا، جَازَ تَقْلِيدُهُمْ عَلَى الْأَصَحِّ.
الْفَصْلُ الثَّانِي فِي الْمُفْتِي: وَمَتَى لَمْ يَكُنْ فِي الْمَوْضِعِ إِلَّا وَاحِدٌ يَصْلُحُ لِلْفَتْوَى، تَعَيَّنَ عَلَيْهِ أَنْ يُفْتِيَ، وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ غَيْرُهُ فَهُوَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، وَمَعَ هَذَا فَلَا يَحِلُّ التَّسَارُعُ إِلَيْهِ، فَقَدْ كَانَتِ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَعَ مُشَاهَدَتِهِمُ الْوَحْيَ يُحِيلُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْفَتْوَى، وَيَحْتَرِزُونَ عَنِ اسْتِعْمَالِ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ مَا أَمْكَنَ.
ثُمَّ نَتَكَلَّمُ فِي ثَلَاثِ