الْبَابُ الثَّالِثُ فِي تَرْكِ الْقِتَالِ وَالْقَتْلِ بِالْأَمَانِ
قَدْ تَقْتَضِي الْمُصْلِحَةُ الْأَمَانَ لِاسْتِمَالَتِهِ إِلَى الْإِسْلَامِ، أَوْ إِرَاحَةِ الْجَيْشِ، أَوْ تَرْتِيبِ أَمْرِهِمْ، أَوْ لِلْحَاجَةِ إِلَى دُخُولِ الْكُفَّارِ، أَوْ لِمَكِيدَةٍ وَغَيْرِهَا، وَيَنْقَسِمُ إِلَى عَامٍّ وَهُوَ مَا تَعَلَّقَ بِأَهْلِ إِقْلِيمٍ أَوْ بَلَدٍ، وَهُوَ عَقْدُ الْهُدْنَةِ، وَيَخْتَصُّ بِالْإِمَامِ وَوُلَاتِهِ، وَسَيَأْتِي فِي بَابِهِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - وَإِلَى خَاصٍّ وَهُوَ مَا تَعَلَّقَ بِآحَادٍ، وَيَصِحُّ مِنَ الْوُلَاةِ وَالْآحَادِ، وَالْبَابُ مَعْقُودٌ لِهَذَا وَفِيهِ مَسَائِلُ: إِحْدَاهَا: إِنَّمَا يَجُوزُ لِآحَادِ الْمُسْلِمِينَ أَمَانُ كَافِرٍ، أَوْ كُفَّارٍ مَحْصُورِينَ، كَعَشَرَةٍ وَمِائَةٍ، وَلَا يَجُوزُ أَمَانُ نَاحِيَةٍ وَبَلْدَةٍ، وَفِي الْبَيَانِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُؤَمِّنَ وَاحِدٌ أَهْلَ قَلْعَةٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقَرْيَةَ الصَّغِيرَةَ فِي مَعْنَاهَا، وَعَنِ الْمَاسَرْجَسِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَمَانُ وَاحِدٍ لِأَهْلِ قَرْيَةٍ وَإِنْ قَلَّ عَدَدُ مَنْ فِيهَا، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَضَابِطُهُ أَنْ لَا يَنْسَدَّ بِهِ بَابُ الْجِهَادِ فِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ، فَإِذَا تَأَتَّى الْجِهَادُ بِغَيْرِ تَعَرُّضٍ لِمَنْ أُمِّنَ، نَفَذَ الْأَمَانُ، لِأَنَّ الْجِهَادَ شِعَارُ الدِّينِ وَالدَّعْوَةِ الْقَهْرِيَّةِ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ مَكَاسِبِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَظْهَرَ بِأَمَانِ الْآحَادِ انْسِدَادُهُ أَوْ نُقْصَانٌ يُحَسُّ، قَالَ الْإِمَامُ: وَلَوْ أُمِّنَ مِائَةُ أَلْفٍ مِنَ الْكُفَّارِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ لَمْ يُؤَمِّنْ إِلَّا وَاحِدًا، لَكِنْ إِذَا ظَهَرَ انْسِدَادٌ أَوْ نُقْصَانٌ، فَأَمَانُ الْجَمِيعِ مَرْدُودٌ، وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: إِنْ أَمَّنُوهُمْ مَعًا فَرَدُّ الْجَمِيعِ ظَاهِرٌ، وَإِنْ أَمَّنُوهُمْ مُتَعَاقِبِينَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ أَمَانُ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ إِلَى ظُهُورِ الْخَلَلِ، عَلَى أَنَّ الرُّويَانِيَّ ذَكَرَ أَنَّهُ لَوْ أَمَّنَ كُلُّ وَاحِدٍ وَاحِدًا، جَازَ، وَإِنْ كَثُرُوا حَتَّى زَادُوا عَلَى عَدَدِ أَهْلِ الْبَلْدَةِ.