وَقَدْ قَرَّرْنَا فِيمَا مَضَى, أَنَّ الذَّمَّ لَا يَلْحَقُ الْمُجْتَهِدَ, حَتَّى إنَّا نَقُولُ: إنَّ مُحَلِّلَ الْحَرَامِ أَعْظَمُ إثْمًا مِنْ فَاعِلِهِ, وَمَعَ هَذَا فَالْمَعْذُورُ مَعْذُورٌ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَنْ الْمُعَاقَبُ؟ فَإِنَّ فَاعِلَ هَذَا الْحَرَامِ إمَّا مُجْتَهِدٌ أَوْ مُقَلِّدٌ لَهُ وَكِلَاهُمَا خَارِجٌ عَنْ الْعُقُوبَةِ.
قُلْنَا: الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَقْصُودَ بَيَانُ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ مُقْتَضٍ لِلْعُقُوبَةِ, سَوَاءٌ وُجِدَ مَنْ يَفْعَلُهُ أَوْ لَمْ يُوجَدْ.
فَإِذَا فُرِضَ أَنَّهُ لَا فَاعِلٌ إلَّا وَقَدْ انْتَفَى فِيهِ شَرْطُ الْعُقُوبَةِ؛ أَوْ قَدْ قَامَ بِهِ مَا يَمْنَعُهَا, لَمْ يَقْدَحْ هَذَا فِي كَوْنِهِ مُحَرَّمًا, بَلْ نَعْلَمُ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ, لِيَجْتَنِبَهُ مَنْ يَتَبَيَّنُ لَهُ التَّحْرِيمُ.
وَيَكُونُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِمَنْ فَعَلَهُ قِيَامُ عُذْرٍ لَهُ. وَهَذَا كَمَا أَنَّ الصَّغَائِرَ مُحَرَّمَةٌ, وَإِنْ كَانَتْ تَقَعُ مُكَفِّرَةً بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ, وَهَذَا شَأْنُ جَمِيعِ الْمُحَرَّمَاتِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا.
فَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهَا حَرَامٌ -وَإِنْ كَانَ قَدْ يُعْذَرُ مَنْ يَفْعَلُهَا مُجْتَهِدًا أَوْ مُقَلِّدًا - فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُنَا أَنْ نَعْتَقِدَ تَحْرِيمَهَا.
الثَّانِي: أَنَّ بَيَانَ الْحُكْمِ سَبَبٌ لِزَوَالِ الشُّبْهَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ لُحُوقِ الْعِقَابِ؛ فَإِنَّ الْعُذْرَ الْحَاصِلَ بِالِاعْتِقَادِ لَيْسَ الْمَقْصُودُ بَقَاءَهُ, بَلْ الْمَطْلُوبُ زَوَالُهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ, وَلَوْلَا هَذَا لَمَا وَجَبَ بَيَانُ الْعِلْمِ, وَلَكَانَ تَرْكُ النَّاسِ عَلَى جَهْلِهِمْ خَيْرًا