أما فيما يختص بالصناعة النحوية, فالأمر فيه أوضح وأشهر، ولعله قد أتاك نبأ يحيى بن يعمر وتلحينه الحجاج، وكيف استبشع الحجاج أن يلحنه ابن يعمر في كتاب الله, في وقت كان اللحن فيه هجنة للشريف. إنه لحنه في قراءته: "أحبُّ" بالرفع من قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ ... أَحَبَّ إِلَيْكُمْ} 1 مع أن الصناعة النحوية تجيز الرفع2، ولكن أحدا من القراء الأربعة عشر لم يقرأ به3.
أرأيت كيف جرت القراءة على السنة والرواية؟ وكيف لم يستطع الحجاج على سطوته, وقدرته أن يحيد عنها، أو يحاجّ ابن يعمر بما تجيزه الصناعة النحوية، أو يعتذر من لحنه فيها بما تجيزه العربية, مع وجود المخلص له من هذا اللحن المستهجن القبيح؟! فكيف يقال بعد ذلك: إن القراءات كان السبب الأكبر فيها خلو الرسم من الشكل والنقط, وتغمض الأبصار، ويختم على البصائر؟!!
فإن قلت: إن زمن الحجاج ويحيى بن يعمر لم تستحصد فيه الصناعة النحوية، والتأويل الإعرابي، حتى يستطيع أن يحاجّ بما أوردت، فالجواب أن تقرأ ما يقول المازني, وقد جاء الأصمعي يوما وهو في مجلسه فقال الأصمعي: "ما تقول في قول الله عز وجل: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} ؟ قال المازني: سيبويه يذهب إلى أن الرفع فيه أقوى من النصب في العربية لاشتغال الفعل بالمضمر، وأنه ليس ههنا شيء هو بالفعل أولى، ولكن أبت عامة القراء إلا النصب، فنحن نقرؤها لذلك اتباعا؛ لأن القراءة سنة"4.
على أن خبر الحجاج ويحيى بن يعمر لا يزال قائم الحجة على الذين ينكرون أن القراءة سنة!
ثم انظر -في خبر المازني والأصمعي- كيف يخضع الأئمة الأولون لما هو وارد في الأثر، ولو كان مرجوحا من حيث الصنعة؛ اتباعا للرواية، واقتداء بالسنة!
وثالثا: بل, إن بعض هؤلاء الأئمة كان له اختيار في القراءة على مذاهب العربية5، وعلى قياسها ولكنه جانب الأثر في اختياره، فلم توثق قراءته من