فأولًا: إِن رجع الاختلاف إِلى خاصية الخط العربي، وإغفاله من النقط والشكل؛ فخطأ في الرأي، وباطل في التوجيه:
ألم تُرْوَ الروايات وتُتداول قبل تدوين المصاحف؟
ثم ألم تَرَهم كيف كانوا يتحرون ويتثبتون؟
أولم يكن القرآن محفوظًا في الصدور قبل جمع القرآن؟
بلى! فلم يكن اختلاف القراءات بين قرّاء الأمصار راجعًا إلى رسم المصحف؛ فهو يرجع إلى أن الجهات التي وجهت إليها المصاحف كان بها من الصحابة من حمل عنه أهل تلك الجهة، وكانت المصاحف خالية من النقط والشكل، فاحتملت ما صح نقله، وثبتت تلاوته عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ إِذ كان الاعتماد على الحفظ لا على مجرد الخط، فثبت أهل كل ناحية على ما كانوا تلقوه سماعًا عن الصحابة بشرط موافقة الخط، وتركوا ما يخالف الخط امتثالًا لأمر عثمان الذي وافقه عليه الصحابة، لما رأوا في ذلك من الاحتياط في القرآن.
وثانيًا: يظهر أن هؤلاء أجروا القرآن الكريم مجرى ما وقع فيه التصحيف من كلام العرب شعرًا أو نثرًا؛ فقد صحّف الفيض بن عبد الحميد في حلقة يونس، إذ أنشد بيت ذي الإِصبع:
عذير الحي من عدوا ... ن كانوا حيّة الأرض
فقال الفيض: كانوا جنّة الأرض، بالجيم والنون1.
وحدّث قاسم بن أصبغ قال: "لما رحلت إلى المشرق نزلت القيروان, فأخذت عن بكر بن حماد، فقرأت عليه يومًا حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قدم عليه قوم من مضر مجتابي النمار, فقال: "إنما هو مجتابي الثمار" فقلت: "إنما هو مجتابي النمار, هكذا قرأته على كل من لقيته بالأندلس والعراق".