وبالجملة فلا بد أن نقول إنه كانت فينا حالة تعوقنا عن إدراكها، فلما حصل الموضوع القابل لها على استعداده الأخير ظهرت فيه هذه المعقولات وإدراكها، وعلى هذا ليس يحتاج في أن تحصل لنا معقولات إلى محرك من جنسها، أعني أن تكون عقلاً، بل وأن كان ولا بد فبالعرض، مثل أن الذي يزيل الصدأ عن المرآة تكون بوجه ما سبباً لارتسام الصور فيها. ولا يكون أيضاً قولنا فيها إنها موجودة لنا بالقوة منذ الصبى، على معنى القوة الهيولانية، بل بوجه مستعار يشبه المعنى الذي يطلق اسم القوة عليه أصحاب الكمون. أو نقول أن اتصال هذه المعقولات بنا اتصال هيولاني، وهو اتصال الصور بالمواد والوقوف على ذلك يكون من هذه الجهة. وذلك بأن نحصي الأمور الذاتية للصور الهيولانية بما هي هيولانية، ثم نتأمل هل تتصف هذه المعقولات ببعضها أم لا.
فنقول إنه قد ظهر مما تقدم أني للصور الهيولانية مراتب والقوى أيضاً والاستعدادات مرتبة بترتبها. فأول نوع من أنواع الصور الهيولانية هي صور البسائط التي الموضوع لها المادة الأولى، وهي الثقل والخفة، ثم بعد هذه صور الأجسام المتشابهة الأجزاء، ثم النفس الغاذية ثم الحساسة ثم المتخيلة، وكل واحدة من هذه الصور إذا تؤملت وجِد لها أشياء تعمها وتشترك فيها، من جهة. ما هي هيولانية بإطلاق وأشياء تخص واحدة منها أو أكثر من واحدة من جهة ما هي هيولانية ما. فما تخص الصور البسيطة أن الهيولى لا تعرى فيها من إحدى الصورتين المتقابلتين كالبارد والحار والرطب واليابس، ومما تشترك فيه الصور البسيطة والصور المتشابهة الأجزاء أنها منقسمة بانقسام موضوعاتها وحصولها فيها بغير حقيقي، وقد تشاركهما الصور الغاذية في هذين المعنيين، وأن كانت تباينها في نفس وجودها. ولقرب هذه النفس من الصورة المزاجية ظن بها أنها مزاج، وتخص الصور الحسية أنها غير منقسمة بانقسام الهيولى، بالمعنى الذي به تنقسم الصور المزاجية. ولذلك أمكن فيها أن تقبل الكبير والصغير في موضوع واحد على حالة واحدة، وتشترك مع النفس الغاذية في أنها تستعمل آلة آلية، وتخص النفس المتخيلة أنها لا تحتاج في فعلها إلى آلة آلية.
وتعم هذه الصور الهيولانية على مراتبها وتفاوتها من جهة ما هيِ هيولانية مطلقة أمران اثنان: أحدهما أن وجودها إنما يكون تابعاً للتغير بالذات، وذلك إما قريب أو بعيد كالحال في الصور المزاجية وفي النفسانية التي تقدم ذكرها. والثاني أن تكون متعددة بالذات بتعدد الموضوع ومتكثرة بتكثرة. فإن بهاتين، الصفتين يصح عليها معنى الحدوث، وإلا لم يكن هنالك كون أصلاً، وقد أطلنا في من هذا في أول الكتاب. وهذا المعنى من تعدد النفس بتعدد موضوعاتها هو الذي ذهب على القائلين بالتناسخ، فهذه جميع المحمولات الذاتية التي توجد للصور الهيولانية من جهة ما يعم ومن جهة ما يخص. وقد يوجد للصور الهيولانية بما هي هيولانية أمر ثالث وهو أنها مركبة من شيء يجري منها مجرى الصورة، وشيء يجري منها مجرى المادة، ويعم الصور الهيولانية أمر رابع وهو أن المعقول منها غير الموجود. فإذا نحن تأملنا المعقولات وجدنا لها أشياء تخصها كثيرة يظهر بها ظهوراً كثيراً مباينتها بالوجود لسائر الصور النفسانية، ومن هذه الأشياء ظن بها أنها موجودة بالفعل دائماً غير متكونة. فإن كل متكون فاسد إذ كان ذا هيولى. لكن من البين أن هذه الأحوال التي تخصها ليست بكافية في الوقوف على أنها ليست هيولانية دون أحد الأمرين، وذلك إما بأن يلقى جميع الأمور الخاصة بالصور الهيولانية بما هي هيولانية في مسلوبة عنها، وإما أن نقف على أن بعض الأشياء التي تخصها مما تخص الأمور المفارقة. وهذا بين بنفسه لمن زاول صناعة المنطق، ونحن فلنعدد بالأمور الخاصة بهذه المعقولات ونتأمل هل واحد منها مما يخص الأمور المفارقة أم لا، وإن كان ليس بخاص فهل توجد لها مع هذه الأمور العامة للصور الهيولانية بما هي هيولانية ما أم ليس توجد.
فنقول إنه قد يظهر من أمر وجود صور المعقولات للإنسان أنها فيه على نحو مباين لوجود سائر الصور النفسانية فيه، إذ كانت هذه الصور وجودها في موضوعها المشار إليه غير وجودها المعقول، في ذلك أنها واحدة من حيث هي معقولة ومتكثرة من حيث هي شخصية وفي هيولى.