وإذا كان أيضاً يظهر بالتأمل انه ليس يتأتى هاهنا وجود آلة أخرى ولا هاهنا متوسط آخر فبين أنه ليس يمكن أن توجد هاهنا حاسة أخرى. فأما من أن يظهر إنه لا يمكن أن توجد هاهنا آلة أخرى ولا متوسط آخر تقدم، وذلك أنه ليس يوجد متوسط آخر غير الماء والهواء، وذلك أن الأرض بجساوتها لا يمكن. فيها أن يكون متوسطاً والنار لا يمكن أن يوجد فيها حيوان فضلاً عن أن يكون متوسطاً، وكذلك لا يمكن أيضاً أن توجد آلة أخرى. وذلك أن كل آلة إما أن تكون مركبة من ماء كالعين، وهواء كالحال في الأذنين، أو ممتزجة على غاية الاعتدال من الأسطقسات الأربعة على ما هو عليه اللحم. فإن الآلة بوجه ما يجب أن تكون مناسبة للمتوسط.
وقد يظهر ذلك أيضاً من انه أن وجدت هاهنا حاسة أخرى فتوجد لحيوان آخر غير الإنسان فيوجد للأنقص ما ليس يوجد للأكمل، ولذلك كانت الحواس على القصد الأولى من اجل القوى التي هي كمالات لها وبخاصة النطق على ما سنبين من أمره، وقد تلخص في كتاب الحيوان كيف نسبة الأعضاء التي توجد للحيوان من غير أن توجد هي بأعيانها للإنسان إلى الأعضاء. التي تقوم مقامها في الإنسان، وأن مثل هذه الأعضاء وجودها في الإنسان بوجه اشرف كالخرطوم للفيل، والجناح للطائر فإن اليد في الإنسان أتم فعلاً من هذه واشرف، وقد توجد تتلو هذه القوة، أعني قوة الحس في الحيوان الكامل وهو الذي يتحرك إلى المحسوس بعد غيبته عنه أو يتحرك إليه قبل حضوره قوة أخرى، وهي المدعوة بالتخيل، وينبغي أن نقول فيها.
وهذه القوة ينبغيِ أن نفحص من أمرها هاهنا عن أشياء أولها عن وجودها، فإن قوماً ظنوا أنها القوة الحسية بعينها، وقوماً ظنوا بها أنها قوة الظن، وقوم رأوا أنها مركبة منهما، ثم هل هي من القوة التي توجد تارة قوة وتارة فعلاً، وأن كان الأمر كذلك فهي ذات هيولى، فما هي هذه الهيولى وأي مرتبة مرتبتها، وما الموضوع لهذا الاستعداد والقوة، وأيضاً فما المحرك لها والمخرج من القوة إلى الفعل.
فنقول أما أن هذه القوة مغايرة للقوة الحسية فذلك يظهر عن قرب، وذلك انهما وأن اتفقتا في أنهما يدركان المحسوس فهما يختلفان في أن هذه القوة تحكم على المحسوسات بعد غيبتها، ولذلك كانت أتم فعلاً عند سكون فعل الحواس كالحال في النوم، وأما في حال الإحساس فإن هذه القوة يكاد أن لا يظهر لها وجود، وأن ظهر فيعسر ما يفترق من الحس، ومن هذه الجهة نظن أن هذه القوة ليست توجد لكثير جمن الحيوان كالدود والذباب وذوات الأصداف، وذلك إنا نرى هذا الصنف من الحيوان لا يتحرك إلا بحضور المحسوسات، ويشبه أن يكون هذا الصنف، إما أن لا يوجد له تخيلاً أصلاً وأن وجد فغير مفارق للمحسوس، والفحص عن هذا يكون عند النظر في القوة المحركة للحيوان في المكان. وقد تفارق أيضاً هذه القوة قوة الحس،. فإنا كثيراً ما نكذب بهذه القوة ونصدق بقوة الحس، ولا سيما في محسوساتها الخاصة ولذلك ما تسمى المحسوسات الكاذبة تخيلاً.
وأيضاً فقد يمكننا أن نركب بهذه القوة أموراً لم نحس بها بعد بل إنما أحسسناها مفردة فقط كتصورنا غزايل والغول وما أشبه ذلك من الأمور التي ليس لها وجود خارج النفمس، وإنما تفعلها هذه القوة ويشبه أن يكون هذا من فعل هذه القوة خاصاً للإنسان. وسنبين في كتاب الحس والمحسوس الأمور التي بها يباين الإنسان سائر الحيوان في هذه القوى وحيوان حيواناً، والأمور التي فيها تشترك وأيضاً فإن نحس من الأمور الضرورية لنا وليس كذلك التخيل بل لنا أن نتخيل الشيء وأن لا نتخيله، وهذا أحد ما تفارق به هذه القوة قوة الظن. وذلك أن الظن ضروري لنا، وقد تفارقها أيضاً من أن الظن إنما يكون أبداً مع تصديق، وقد يكون تخيل من غير تصديق مثل تخيلنا أشياء لم نعلم بعد صدقها من كذبها وإذا لم تكن هذه القوة ولا واحد من هاتين القوتين، أعني قوة الحس والظن فليس يمكن فيها أن تكون مركبة منهما كما رأى ذلك بعضهم، لأن المركب من الشيء إذا لم يكن على جهة الاختلاط يلزم فيه ضرورة أن، تحفظ خواص ما تركب منه.
وكذلك يظهر هاهنا من قرب أن هذه القوة ليست عقلاً إذ كنا إنما نصدق أكثر ذلك بالمعقولات، ونكذب بهذه القوة.