المالك يعاقب المؤلم منا ومن استحق الإيلام بقدر استحقاقه، وأنه لا ينبغي أن نحتمل ألما في جنب لذّةٍ يفضل عليها ذلك الألم في كميته وكيفيته، وأن البارئ جلّ وعزّ قد وكل الأشياء الجزئية من حوائجنا إلينا كالحراثة والنسج وما أشبه ذلك مما به قوام العالم وقوام المعيشة. فلتكن لنا مسلمة لنبني عليها فنقول: إنه إذا كانت لذات الدنيا وآلامها منقطعة بانقطاع العمر وكانت لذات العالم الذي لا موت فيه دائمة غير منقطعة ولا متناهية فالمغبون من اشترى لذة بائدة منقطعة متناهية بدائمة باقية غير منقطعة ولا متناهية. فإذا كان الأمر كذلك تبعه ووجب منه أنه لا ينبغي لنا أن نطلب لذّةّ لا بد في الوصول إليها من ارتكاب أمر يمنعنا من التخلص إلى عالم النفس أو يوجب علينا في عالمنا هذا ألما مقداره في كميته وكيفيته أعظم وأشد من اللذة التي آثرناه، فأما سائر ذلك من اللذات فمباحة لنا. على أن الرجل الفيلسوف قد يترك كثيرا من هذه المباحات ليرَّن نفسه على ذلك ويعودها فيكون ذلك عليه في الموضع الواجب أهون وأيسر كما ذكرنا في في الطب الروحاني. لأن العادة كما ذكر القدماء طبيعة ثانية تسهل العسير وتؤنس بالمستوحش منه، إن كان في الأمور النفسية وإن كان في الأمور الجسدية، كما نرى الفيوج أقوى على المشي والجند أجرأ على الحرب ونحو ذلك مما لا خفاء به في تسهيل العادات للأمور التي كانت تصعب وتعسر قبل اعتيادها. وهذا القول وإن كان وجيزاً مجملاً - أعني ما ذكرناه في المقدار اللذة المحصورة - فإنه تحته من الجزئيات أمورا كثيرةً، على ما قد بيناها في كتاب الطب الروحاني.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015