بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} ، {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساء لون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا} ، {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما} ، أما بعد:
فأضع بين يديك أخي القارئ الكريم أول نتاجٍ لهذه السلسلة - التي أرجو الله سبحانه أن يجعلها مباركة - من مكتبة مؤلفات الإمام محمد رشيد رضا رحمه الله.
ونفتتحها بهذا الكتاب عن " السنة والشيعة " الذي خضع لظروف تاريخية أنتجت لنا هذا الكتاب حول "الخلافات بين السنة والشيعة" للشيخ محمد رشيد رضا.
إنها تلك الفترة التي حكم فيها الملك عبد العزيز آل سعود الدولة السعودية كأول دولة سنية بعد انهيار الخلافة العثمانية، وبالتزامن مع ظهور تيارين معارضين لقيامها هما: التيار العلماني، والتيار الشيعي الرافضي.
أما السبب المباشر لتأليف الكتاب، فهو نشر مجلة " العرفان " اللبنانية مجموعة من المقالات، التي حاولت فيها التفريق بين المسلمين السنة والدعوة الوهابية كما تُسمى عند البعض، وصَوَّرت الدعوة الوهابية بما لا يتفق مع الإسلام وعقائده.
وكذلك تأليف المرجع الشيعي اللبناني محسن الأمين العاملي رسالة سماها "الحصون المنيعة في الرد على ما أورده صاحب المنار في حق الشيعة" وهي رد على مقال نشره رشيد رضا للرحالة محمد كامل الرافعي البغدادي رصد فيه بعض محاولات علماء الشيعة بث التشيع بين بدو العرب عن طريق إغرائهم بنكاح المتعة.
ومع أن رشيد رضا دائم التأكيد على تمسكه بمشروعه الإصلاحي في ما يقول ويكتب، وهو ما يقوم أصلا على محاربة التعصب المذهبي، الأمر الذي لم يدفعه للرد على مجلة العرفان ورسالة العاملي في البداية، إلا انه رأى في الكتاب الثاني للعاملي "الرد على الوهابية" الذي ملأه بالأباطيل على أهل السنة، وانتصر فيه للثقافة القبورية، وهاجم فيه دولة آل سعود السنية الفتية، أمرا يجب التنبيه عليه من صاحب المنار، سيما أنه رأى أن كتابات العاملي ستلحق ضررا كبيرا بعقائد المسلمين إذا تم السكوت عليها.
ثم أتبع الشيخ رحمه ذلك بذكر بعض ردود الأفعال تجاه ردِّه وذكر بعض المواقف التي وقعت له مع بعض كبراء الشيعة وعلى رأسهم محمد حسين آل كاشف الغطاء.
وسيخلص القارئ لكتاب "الخلافات بين السنة والشيعة" إلى أن تلك العقيدة التي تحدث عنها الكتاب تتكئ اتكاء كبيرا على فكرة المادية النفعية التي حاربها القرآن، وذلك من خلال صياغة نظريات وضعية تكرس الجهل العام والثقافة العدائية التفريقية (?) ، كما تكرس الطقوس القبورية والخرافية، وتمارس استفزاز الغرائز والشهوات البشرية لبلوغ أكبر قدر من الحصاد المادي باسم محبة آل البيت.
وبناء على هذا البون العقدي الواسع بين السنة والشيعة، يأتي هذا الكتاب بمثابة إعلان يأس رشيد رضا في التوصل إلى أي مقاربة مع الرافضة ضمن مشروعه الإصلاحي، بل ويعلن القطيعة معهم، بعد أن خاض تجربته المريرة مع علماء مجتهدين منهم - كما يقال عنهم - بادروه التقية في مسألة الوحدة الإسلامية بعد انهيار الخلافة العثمانية، ولكن سرعان ما تعصبوا لضلالاتهم وكشفوا عن الوجه العدائي الحقيقي لأهل السنة بعد قيام أول حاضنة عقدية لهم في دولة آل سعود. (?)
وقد كانت آخر طبعة للكتاب - حسب علمي - في سنة 1366 هـ (1947 م) ، فتأمل!
فلذلك أحببت إعادة طباعة الكتاب مع التعليق عليه بما - أحسب أنه - يتناسب مع مكانة الكتاب ومؤلفه كما يتناسب ما نعيشه اليوم من أطروحات:
1 - فقمت بتخريج الأحاديث وتوثيق المسائل والأقوال التي حكاها الشيخ رحمه الله سواء عن الشيعة من كتبهم ومن المصادر الأصلية، وكذلك ما حكاه عن المستشرقين بل وحتى عن علماء النفس وغيرهم كل ذلك قدر المستطاع.
2 - قمت ببيان مواضع أقوال المؤلف رحمه الله في مجلة المنار في المواضيع التي تم التطرق إليها في الكتاب قدر المستطاع.
3 - ما كان من تعليقات المؤلف في الحاشية نبهت عليه بوضع حرف (ر) آخر كل تعليق له، وما كان من تعليقات الآلوسي نبهت عليه بوضع حرف (أ) .
4 - جعلت توثيق الجزء والصفحة أو رقم الرواية التي ذكر المؤلف مصدرها بجانب المصدر بين معكوفتين [] .
وأما ما يخص ترجمة المصنف رحمه الله فقد أوجزت الكلام حولها في هذه الرسالة إلا أني توسعت فيها في ترتيبي لفتاوى الإمام رشيد رضا الذي سيرى النور عما قريب بحول الله تعالى.
وأرجو أن يسامحني أخي القارئ الكريم إن كان يرى أن هذه التعليقات قد أثقلت الكتاب بكثرتها وطولها أحياناً، إلا أني أرجو أن يكون عذري في هذا تتميم جهد المؤلف رحمه الله وفائدة القارئ، خاصة من خلال توثيق كثير من المسائل التي ظن بعض الشيعة الاثنا عشرية الذين ردوا على الشيخ رحمه الله أنها لم تكن سوى ((محض افتراء إذ لم ينسبها إلى كتاب معتبر)) (?) .
لذا فإن من أهم مقاصد المعلق على هذا الكتاب - الذي بين يديك أخي القارئ - الدفاع عن الكتاب ومؤلفه أمام تلك الكتابات التي اتهمته بالكذب والافتراء على الطائفة تارة، وبالنصب وبغض أهل البيت تارات أخرى!
فكانت النتيجة هي غمطهم حق الشيخ وقراءة هذا الكتاب بهدف الرد والطعن في المؤلف رحمه الله.
فأرجو الله سبحانه وأسأله بفضله أن ييسر أمر من يتقبل هذه الرسالة ويطالعها بعقل، ويبحث بين أسطرها عن الحق، أو على الأقل عن عيوبه لكي يصلحها.
اللهم، رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون؛ اهدنا لما اختُلِفَ فيه من الحق بإذنك؛ إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير، والله المستعان، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه:
محمد أحمد العباد
نبذة موجزة عن المؤلف رحمه الله:
ولد المؤلف في قرية القلمون التابعة لطرابلس الشام بلبنان في سنة (1282هـ = 1865م) ، وهاجر رحمه الله من لبنان إلى القاهرة سنة (1315هـ = 1898م) واتخذها مستقرًا له.
وقد كان له أثر بالغ في شتى أقطار المسلمين، وكذلك كانت له أسفارٌ وزيارات إلى العديد من الأقطار الإسلامية، ومنها زيارته إلى الكويت حيث كانت تربطه روابطُ - آكدها رابطة العقيدة - إضافة لما تحمله الأرواح المؤتلفة من المودة والمحبة مع العديد من الشخصيات الكويتية.
وهنا أدع الشيخ رشيد رضا رحمه الله ليحدثنا عن بعض أحداث زيارته للكويت، فيقول (?) :
((جَرَت السفينة بنا من "مسقط" ظهر يوم الاثنين، وهي - أي: السفينة - إنكليزية، تقطع في الساعة 12 ميلاً فقط، وفي ضحوة اليوم الثاني خرجت بنا عن محاذاة جبال عمان ودخلت في الخليج الفارسي فصرنا نرى بر فارس عن اليمين وبر العرب عن اليسار، ووقفت بنا فجر يوم الخميس في موضع من عرض البحر كان ينتظرنا فيها مركب شراعي كبير أرسله إلينا الشيخ مبارك الصباح صاحب الكويت، وكان عَلِم بأننا نصل إليه في هذا الوقت في هذه الباخرة مما كُتِبَ إليه من بُمْبَي ومسقط، فنزلنا فيه قبل طلوع الشمس فأقلع بنا والريح لينة والبحر رهو.
ثم قويت الريح قليلاً في النهار فبلغ بنا الكويت قبل غروب الشمس، وكان رجال الشيخ مبارك حملوا فيه خروفين كبيرين وكثيرًا من الحلوى والمشمش والخيار فأفطرنا وتغدينا فيه.
وقد استقبلنا أولاد الشيخ مبارك وبعض الوجهاء في زورق صغير خارج الميناء.
أنزلني الشيخ مبارك في قصره الجديد الذي هو قصر الإمارة وتولى مؤانستي ومجالستي في عامة أوقاته في مدارسة العلم ومراجعة الكتب حتى صار له مشاركة جيدة في جميع العلوم الإسلامية، وأقمت في الكويت أسبوعًا كنت كل يوم ما عدا يوم البريد، ألقي فيه خطابًا وعظيًّا في أكبر مساجد البلد فيكتظ الجامع بالناس، وكان يحضر مجلسي كل يوم وليلة وجهاء البلد من أهل التقوى وحب العلم يسألون عما يشكل عليهم من أمر دينهم.
وأما الشيخ ناصر (?) فكان يسأل عن دقائق العلوم في العقائد والأصول والفقه وغير ذلك، على أنه لم يتلقَ عن الأساتذة (?) فهو من مظاهر الذكاء العربي النادر)) .
كما كان للشيخ عبد العزيز العتيقي رحمه الله (توفي عام 1388 هـ) مراسلات مع الشيخ رشيد رضا. (?)
وكذلك له علاقة مع الشيخ المؤرخ عبد العزيز الرشيد حيث قال رحمه الله عن مجلة "التوحيد": ((جريدة دينية أدبية يصدرها في سنغافورة الأستاذ الفاضل الشهير الشيخ عبد العزيز الرشيد صاحب مجلة الكويت التي كان يصدرها في الكويت من قبل، والأستاذ كاتب عالم معتدل فنتمنى لصحيفته الرواج)) . (?)
وقال عن مجلة (الكويت) : ((مجلة دينية تاريخية أدبية شهرية صدر الجزء الأول من هذه المجلة في مدينة الكويت لمحررها الأديب الفاضل الشيخ عبد العزيز الرشيد المعروف من خيرة أدباء تلك البلاد العربية العزيزة، فألفيناه وقد تناول المواضيع الإصلاحية الدينية بعناية تنم عن مشربه الحسن في الإصلاح الديني. . . فنرجو (للكويت) تقدمًا مضطردًا ورواجًا يليق بهمة وإخلاص منشئها الفاضل)) . (?)
ويقول الشيخ يوسف بن عيسى القناعي رحمه الله: ((وكان لمؤلفات الإمامين الجليلين شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ومجلة "المنار" الغراء أكثر أثر في إنارة السبيل أمامي وإماطة الستار الذي أبصرت من خلفه الحق واضحاً فتغيرت بعده كل ما ألفته مما لا يتفق مع الدين في شيء)) . (?)
من مؤلفاته وكتبه:
لقد استغرقت مجلة المنار معظم جهود الشيخ رشيد رضا، حيث كان يكتب أغلب ما ينشر في المنار، وكان لا يوقع على مقالاته، وبحوثه فيها باستثناء الافتتاحية، ويقرر هو أن كل ما كتب في المنار دون إمضاء فهو من تأليفه.
وعلى صفحات المجلة استكمل التفسير الذي بدأه شيخه محمد عبده وتوقف عند الآية (125) من سورة النساء، ثم واصل التفسير حتى كانت خاتمته الحسنى التي انتهى إليها على ما علمه الخاص والعام في قول يوسف عليه السلام: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} ، ويُعدّ هذا التفسير من أجلّ التفاسير على الرغم من عدم اكتماله، وقد استخرج هذا التفسير من المجلة وطبع مستقلاً تحت عنوان تفسير المنار في 12 مجلدًا، وله أيضًا:
محاورات المصلح والمقلد
نداء للجنس اللطيف
الخلافة
شبهات النصارى وحجج الإسلام.
السنة والشيعة أو الوهابية والرافضة، وهو كتابنا هذا.
مناسك الحج، وغير ذلك.
وفاته:
كان للشيخ رشيد رضا علاقات وثيقة في شتى أنحاء الدول العربية، خاصة مع رجالات العرب ومصلحيها, وذات يوم وهو في رحلة عودته من وداع الأمير سعود بن عبد العزيز بالسويس أصيب بنوبة قلبية توفي على إثرها في 23 جمادى الأولى 1354هـ ـ 22 أغسطس 1935م، وقد جاوز السبعين من العمر.
وأختم الترجمة الموجزة بعبارةٍ موجزة تؤكد ما ابتدأتُ به حول الأثر العظيم والمهم للمؤلف رحمه الله لصالح أمته، والعبارة للشيخ محمد ناصر الدين الألباني حيث قال رحمه الله: ((السيد محمد رشيد رضا، رحمه الله له فضل كبير على العالم الإسلامي، بصورة عامة، وعلى السلفيين منهم بصورة خاصة، ويعود ذلك إلى كونه من الدعاة النادرين الذين نشروا المنهج السلفي في سائر أنحاء العالم بوساطة مجلته المنار،..)) (?) . اهـ