دون مال، فاتفق في هذه الأيام رضي الطاغية عنه وامره بالنفوذ لمهم اشغاله السلطانية، فنفذ لها نفوذ المملوك المغلوب على نفسه وماله، وصدرت عنه عند وصوله الى هذه البلدة رغبة في الاجتماع بنا، فاجتمعنا به، فأظهر لنا من باطن حاله وبواطن أحوال هذه الجزيرة مع أعدائهم ما يبكي العيون دما، ويذيب القلوب ألما، فمن ذلك انه قال: كنت اود لو أباع أنا واهل بيتي، فلعل البيع كان يخلصنا مما نحن فيه، ويؤدي بنا الى الحصول في بلاد المسلمين. فتأمل حالا يؤدي بهذا الرجل، مع جلالة قدره وعظم منصبه، الى أن يتمنى مثل هذا التمنين مع كونه مثقلا عيالا وبنين وبنات، فسألنا له من الله عز وجل حسن التخلص مما هو فيه ولسائر المسلمين من أهل هذه الجزيرة. وواجب على كل مسلم الدعاء لهم في كل موقف يقفه بين يدي الله عز وجل، وفارقناه باكيا مبكيا، واستمال نفوسنا بشرف منزعه، وخصوصية شمائله، ورزانة حصاته، وشمول مبرته وتكرمته، وحسن خلقه وخليقته. وكنا قد أبصرنا له ولإخوته ولأهل بيته بالمدينة ديارا كأنها القصور المشيدة الأنيقة، وشأنهم بالجملة كبير لا سيما هذا الرجل منهم.
وكانت له أيام مقامه هنا أفعال جميلة مع فقراء الحجاج وصعاليكهم أصلحت أحوالهم ويسرت لهم الكراء والزاد، والله ينفعه بها ويجازيه الجزاء الأوفى عليها بمنه.
ومن أعظم ما مني به أهل هذه الجزيرة أن الرجل ربما غضب على ابنه أو على زوجه أو تغضب المرأة على ابنتها فتلحق المغضوب عليه أنفة تؤديه الى التطارح في الكنيسة فيتنصر ويتعمد، فلا يجد الاب للابن سبيلا ولا الأم للبنت سبيلا. فتخيل حال من يمنى بمثل هذا في أهله وولده ويقطع عمره متوقعا لوقوع هذه الفتنة فيهم! فهم الدهر كله في مداراة الأهل والولد خوف هذه الحال.
وأهل النظر في العواقب منهم يخافون أن يتفق على جميعهم ما اتفق على أهل جزيرة أقريطش من المسلمين، في المدة السالفة، فإنه لم تزل بهم الملكة الطاغية من النصارى والاستدراج الشيء بعد الشيء حالا بعد حال حتى اضطروا الى التنصر عن آخرهم، وفر منهم من قضى الله بنجاته، وحقت كلمة العذاب على الكافرين، والله غالب على امره؛ لا اله سواه.
ومن عظم هذا الرجل الحمودي المذكور في نفوس النصارى، أبادهم الله،