قرطبية البنيان، مبانيها كلها بمنحوت الحجر المعروف بالكذان، يشقها نهر معين، ويطرد في جنباتها أربع عيون، قد زخرفت فيها لملكها دنياه، فاتخذها حضرة ملكه الإفرنجي أباده الله، تنتظم بلبتها قصوره انتظام العقود في نحور الكواعب، ويتقلب من بساتينها وميادينها بين نزهة وملاعب، فكم له فيها، لا عمرت به، من مقاصير ومصانع، ومناظر ومطالع، وكم له بجهاتها من ديارات قد زخرف بنيانها، ورفه بالأقطاعات الواسعة رهبانها، وكنائس قد صيغ من الذهب والفضة صلبانها، وعسى الله عن قريب أن يصلح لهذه الجزيرة الزمان، فيعيدها دار ايمان، وينقلها من الخوف للأمان، بعزته، انه على ما يشاء قدير.
وللمسلمين بهذه المدينة رسم باق من الإيمان، يعمرون أكثر مساجدهم ويقيمون الصلاة بأذان مسموع، ولهم أرباض قد انفردوا فيها بسكناهم عن النصارى، والأسواق معمورة بهم وهم التجار فيها، ولا جمعة لهم بسبب الخطبة المحظورة عليهم، ويصلون الأعياد بخطبة دعاؤهم فيها للعباسي، ولهم بها قاض يرتفعون اليه في أحكامهم، وجامع يجتمعون للصلاة فيه ويحتفلون في وقيده في هذا الشهر المبارك، وأما المساجد فكثيرة لا تحصى، وأكثرها محاضر لمعلمي القرآن.
وبالجملة فهم عزباء عن اخوانهم المسلمين تحت ذمة الكفار ولا أمن لهم في اموالهم ولا في حريمهم ولا أبنائهم، تلافاهم الله بصنع جميل بمنه.
ومن جملة شبه هذه المدينة بقرطبة، والشيء قد تشبه بالشيء من إحدى جهاته، أن لها مدينة قديمة تعرف بالقصر القديم هي في وسط المدينة الحديثة، وعلى هذا المثال موضوع قرطبة، حرسها الله. وبهذا القصر القديم ديار كأنها القصور المشيدة لها مناظر في الجو مطلة تحار الأبصار في حسنها.
ومن أعجب ما شاهدناه بها من أمور الكفران كنيسة تعرف بكنيسة الأنطاكي، أبصرناها يوم الميلاد، وهو يوم عيد لهم عظيم، وقد احتفلوا لها رجالا ونساء، فأبصرنا من بنيانها مرأى يعجز الوصف عنه، ويقع القطع بأنها أعجب مصانع الدنيا المزخرفة جدرها الداخلة ذهب كلها، وفيها من ألواح الرخام الملون ما لم ير مثله قط، قد رصعت كلها بفصوص الذهب وكللت بأشجار