يكون هبوبا. فحمدنا الله تعالى على أن لم تأخذنا ونحن على ظهر البحر جارين، والحمد لله على جميل صنعه.
وأقلعنا من المرسى المذكور يوم الاثنين التاسع عشر لشعبان المذكور، والسادس والعشرين لنونبر، بريح طيبة موافقة، فاستبشرنا بها واستطلعنا جميل صنع الله عز وجل ولطف قضائه، لا رب سواه. وتمادى سيرنا الى يوم الخميس الثاني والعشرين لشعبان، والتاسع لنونبر، ثم انقلبت الريح غربية وأنشأت سحابة فيها رعد قاصف، وزجتها ريح عاصف، وتقدمها برق خاطف، فأرسلت حاصبا من البرد صبته علينا في المركب شآبيب متداركة، فارتاعت له النفوس، ثم أسرع انقشاعها، وانجلى عن الأنفس ارتياعها، وبتنا ليلة الجمعة مبيت وحشة وطالعنا بها اليأس من مكمنه، فلما أسفر الصبح وطلع النهار أبصرنا بر صقلية لائحا أمامنا. فيا لها بشرى ومسرة، لو لم تعد حسرة في كرة! فأمسينا ليلة السبت، وهو أول يوم من دجنبر، ونحن على ادراكه في أقل من ثلثها أو منتصفها، ولكل أجل كتاب وميقات، وكم أمل تعترض دونه الآفات، فما كان الا كلا ولا حتى ضربت في وجوهنا ريح أنكصتنا على الأعقاب، وحالت بين الابصار والارتقاب. وما زالت تعصف، حتى كادت تنسف وتقصف، فحطت الشرع عن صواريها، واستسلمت النفوس لباريها، وتركنا بين السفينة ومجريها، وتتابعت علينا عوارض ديم، حصلنا منها ومن الليل والبحر في ثلاث ظلم، وعباب الموج تتوالى صدماته، وتطفر الألباب رجفاته. فنبذت نفوسنا كل أمنية، وتأهبت للقاء المنية.
وقطعنا هذه الليلة البهماء في مصادمة أهوال، ومكابدة أوجال، ومقاساة أحوال، يا لها من أحوال! ثم أصبحنا يوم السبت ليوم عصيب، أخذ من هول ليلة بأوفر نصيب، والأمواج والرياح تترامى بنا حيث شاءت، وقد استسلمنا للقضاء، وتمسكنا بأسباب الرجاء. ثم تداركنا صنع الله تعالى مع المساء ففترت الريح ولان متن البحر وأسفر وجه الجو. وأصبحنا يوم الاحد ثاني دجنبر، والخامس والعشرين لشعبان، وقد بدل لنا من الخوف الأمان وتطلعت الوجوه كأنها انتشرت من الأكفان، وساعدت الريح بعض مساعدة. فعدنا