أجل.. لقد انتهى جهاد أبي الدرداء ضدّ نفسه، ومع نفسه الى تلك الذروة العالية.. الى ذلك التفوق البعيد.. الى ذلك التفاني الرهباني، الذي جعل حياته، كل حياته لله رب العالمين..!!
**
والآن تعالوا نقترب من الحكيم والقدّيس.. ألا تبصرون الضياء الذي يتلألأ حول جبينه..؟
ألا تشمّون العبير الفوّاح القادم من ناحيته..؟؟
انه ضياء الحكمة، وعبير الايمان..
ولقد التقى الايمان والحكمة في هذا الرجل الأوّاب لقاء سعيدا، أيّ سعيد..!!
سئلت أمه عن أفضل ما كان يحب من عمل.. فأجابت:
" التفكر والاعتبار".
أجل لقد وعى قول الله في أكثر من آية:
(فاعتبروا يا أولي الأبصار) ...
وكان هو يحضّ اخوانه على التأمل والتفكّر يقول لهم:
" تفكّر ساعة خير من عبادة ليلة"..
لقد استولت العبادة والتأمل ونشدان الحقيقة على كل نفسه.. وكل حياته..
ويوم اقتنع بالاسلام دينا، وبايع الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا الدين الكريم، كان تاجرا ناجحا من تجار المدينة النابهين، وكان قد قضى شطر حياته في التجارة قبل أن يسلم، بل وقبل أن يأتي الرسول والمسلمون المدينة مهاجرين..
بيد أنه لم يمض على اسلامه غير وقت وجيز حتى..
ولكن لندعه هو يكمل لنا الحديث:
" أسلمت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأنا تاجر..
وأردت أن تجتمع لي العبادة والتجارة فلم يجتمعا..
فرفضت التجارة وأقبلت على العبادة.
وما يسرّني اليوم أن أبيع وأشتري فأربح كل يوم ثلاثمائة دينار، حتى لو يكون حانوتي على باب المسجد..
ألا اني لا أقول لكم: ان الله حرّم البيع..
ولكني أحبّ أن أكون من الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله"..!!
أرأيتم كيف يتكلّم فيوفي القضيّة حقها، وتشرق الحكمة والصدق من خلال كلماته..؟؟
انه يسارع قبل أن نسأله: وهل حرّم الله التجارة يا أبا الدرداء ... ؟؟
يسارع فينفض عن خواطرنا هذا التساؤول، ويشير الى الهدف الأسمى الذي كان ينشده، ومن أجله ترك التجارة برغم نجاحه فيها..
لقد كان رجلا ينشد تخصصا روحيا وتفوقا يرنو الى أقصى درجات الكمال الميسور لبني الانسان..
لقد أراد العبادة كمعراج يرفعه الى عالم الخير الأسمى، ويشارف به الحق في جلاله،