به من الآيات والعبر، ولم يكن ذلك سحرا، لأكسب نفسه من الملك والنعمة، مثل الذي هو فيه، وأما قوله: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (5)} [الزخرف: 53]، يقول فرعون لقومه بعد احتجاجه عليهم بملكه وسلطانه، وبيان لسانه وتمام خلقه، وفضل ما بينه وبين موسى بالصفات التي وصف بها نفسه: أنا خير أيها القوم، وصفتي هذه الصفة التي وصفت لكم {مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} لا شيء له من الملك والأموال مع العلة التي في جسده، والآفة التي بلسانه، فلا يكاد من أجلها يبين كلامه؟ (?).
وهكذا هم أهل الجاهلية الذين يقيّمون الناس بناء على أشكالهم وهيئاتهم، لا على إيمانهم وأخلاقهم، مبتعدين عن الميزان الإلهي الذي قال: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (1)} [الحجرات: 13]، ففي هذا الميزان يَعظُم موسى عليه السلام الذي هو من أُولي العزم من الرسل وهو كليم الله، فان هذه المواقف من قصة موسى عليه السلام تبين لذوي الاحتياجات الخاصة أن الضعف بالنطق أو الحواس أو الأعضاء، لا يضع من قدر الإنسان عند الله إن كان صاحب تقوى وإيمان، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (رُبَّ أَشعثَ أَغبرَ ذي طِمرَين تنبو عنه أَعينُ الناس لو أَقسمَ على اللهِ لأَبرَّهُ) (?). والطِّمْرُ: الثوب الخلق، يقول رُبَّ ذِي خَلَقَين اطاع الله حتى لو سأل الله تعالى أجابه. (?) فما أحوجنا في هذا الزمان الذي يُكَرَّم فيه الانسان ويُقدَّر بناء على منصبه وماله وصحته وجماله، أن نعود الى الميزان الإلهي الذي يعطي كل ذي حق حقه، ويضع الامور في نصابها، وبذلك تكون السعادة وترجع للأمة السيادة، عن مصعب بن سعد عن أبيه: قال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: " (إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم) " (?).
وممن نصر الله بهم الأمة في هذا العصر، مصطفى صادق الرّافعي، الذي ولد سنة 1881 م، وقد حفظ القرآن وهو دون العاشرة، وفقد حاسة السمع بسبب مرض أُصيب به، لم يُنْهِ إلا المرحة الابتدائية فقط، فأكب على مكتبة والده الحافلة، التي تجمع نوادر كتب الفقه والدين والعربية، فاستوعبها وراح يطلب المزيد، كانت علته سببا باعد بينه وبين مخالطته الناس، فكانت مكتبته هي دنياه التي يعيشها وناسها ناسه، وجوها جوه، وأهلها صحبته وخلانه وسمّاره، وقد ظل على دأبه في القراءة والإطلاع إلى آخر يوم في عمره، يقرأ كل يوم ثماني ساعات لا يكل ولا يمل، كأنه في التعليم شاد لا يرى أنه وصل إلى غاية.