ذم الدنيا (صفحة 377)

371 - حدثني علي بن الحسن بن أبي مريم، عن داود بن عبيد الله بن مسلم الحنفي قال: كان بعض الحكماء يقول في كلامه:

في كل حال تلقى الدنيا مختمرة متنكرة، حتى إذا هبطت دياراً لها، كشفت قناعها، وتحسرت، فانتصبها العاملون مثالاً لأنفسهم، فنظروا فيها بالعبر، وقطعوا قلوبهم كمداً خرج إليها بالفكر في الغير، أولئك الذين أنزلوا الدنيا حق منزلتها، فهم فيها أهل كلال ووصب، قد ذوبوا الأجساد، وأظمأوا الأكباد خوفاً، أن يحل بهم ما يحل بالهالكين قبلهم، الذين أناخت الدنيا في ديارهم، فأشعرتهم من طوارق مثلها، ما صاروا بذلك عبراً وحديثاً للباقين من بعدهم، فالقوم في مناجاة العزيز بالاستكانة له، والتذلل والتضرع إليه، والاستعاذة به من شر ما تهجم به الدنيا على أوليائها، والرغبة إليه في الخلاص من ذلك، لا يستكثرون له من أنفسهم طاعة، ولو ماتوا قياماً على الأعقاب متعبدين، ولا يستصغرون من أنفسهم إلى الدنيا من المعاصي لحظة، ولو كانوا أيام حياتهم عنها معرضين، ملأت الآخرة قلوبهم، فليس لأنفسهم عندهم في الدنيا راحة، أولئك الذين اتصلت قلوبهم بمحبة وصف سيدهم دار القرار، فعلقوا من الوصف بأوهام العقول، ما استطارت لذلك قلوبهم، وغشيت عن غيره أبصارهم، فعيشهم في الدنيا منغوص، وحظها منها عند أنفسهم -[157]- منقوص، ينظرون إليها بعين الرهبة منها، فإذا ذكرت عندهم الآخرة جاءت الرغبة فطاشت عندها العقول.

قال: وكان يقول:

إن الدنيا كأس سكرات، أماتت شاربيها وهم أحياء، فعموا وهم يبصرون وصموا وهم يسمعون، وخرسوا وهم ينطقون.

قال: وكان يقول:

ليت الدنيا لم تخلق، وليتها إذا خلقت لم أخلق:

قال: وكان يقول:

تصرعنا ونثق بها، وترينا عبرها فنواريها عن أنفسنا، فيا عجباً كل العجب من زاهد فيك، وأنت ترغبين فيه، ويا عجباً كل العجب من ماقت لك، وأنت له محبة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015