كيلاً، فلما خرجنا منها وجدنا أننا أمام «الأزْرَق» الذي هربنا منه، وإذا بنا قد وقعنا فيه.
* * *
من المشاهد ما يبقى محفوراً في ذاكرة الإنسان حتى كأنه يراه أمامه، منها هذا المشهد. كنّا ننزل في منحدَر وأمامنا عن بُعد مركز «الأزْرَق» يلوح العلم فوقه ويقف الجند حوله وتحفّ السيارات العسكرية به، فخشينا أن يكونوا قد رأونا فتضيع جهودنا كلها ويذهب تعبنا عبثاً، وكان عن شمائلنا أدغال وعرة فيها نبت من نبت الصحراء ذو أشواك، أرضها من الرمل الناعم، وهو العدوّ الأكبر للسيارات لأن دواليبها تغوص فيه فلا تُستخرج منه إلاّ ببالغ المشقّة، ولكنْ ليس أمامنا إلاّ دخولها. فدخلناها تقوم بنا السيارة وتقعد وتميل وتستقيم، وكانت مثقَلة بأحمالها، فيها فوق رُكّابها الحقائب والزاد وقطع التبديل، ومئتا صفيحة (أي تنكة) بنزين.
ورحمَنا الله فوصلنا إلى قاعٍ مستوٍ وقفنا فيه وتهيّأنا للمبيت. والقاع في عُرف البدو مستنقَع ماء أو غدير جفّ فكان بقعة مستوية كأنها الكفّ، أرضها من الطين المتماسك فيه شقوق. وكان خالياً موحشاً، فلما نُصِب فيه السرادق (وهو خيمة كبيرة) وأُشعلت فيه مصابيح الغاز (الأتيريك)، وأُوقدت أمامه النار ومُدّت فيه البُسُط، رأيت القاع قد استحال إلى قرية صغيرة أو معسكَر من معسكَرات الكشافة. وكنّا قد أحضرنا معنا رادّاً (راديو) وصّلوه بكهرباء السيارة فانطلق يصدح بالأغاني، ولم تكن هذه الروادّ الصغيرة التي توضع في الجيب وتعمل على الأحجار، أي البطاريات الصغيرة.