السيارات حضرت، وعلّقوا في صدرها لوحة كبيرة كتبوا فيها «الوفد السوري لاكتشاف طريق الحجّ البري». مع أن الطريق كان معروفاً ومسلوكاً، تمشي فيه قافلة الحُجّاج كل سنة ومعها قوّة عسكرية لتحميها، ولم تكن تنجو مع ذلك من الأعراب ومن قُطّاع الطرق. وكانت القوّة تحمل معها «الصرّة» وفيها مال من الدولة يُوزَّع على الأعراب وقُطّاع الطرق. وكانت الدولة العثمانية قد أقامت على الطريق سلسلة من القلاع لتضمن سلامة سالكيه، ووكّلت بكل قلعة أسرة من أسر «الميدان» الكبيرة لحمايتها. كذلك كان طريق الحجّ، فرحم الله عبد العزيز.

* * *

في هذه اللحظة أيقنت بالسفر. وفكّرت كيف أفارق أهلي وموطني وأطوّح بنفسي في هذه الصحراء في رحلة فقدَت كلّ أسباب السلامة، فلا خطّة لها نتبعها، ولا قوّة معها تحميها، ولا أمير لها يحكم أمرها. واستفاقت في نفسي مئات من الذكريات، فأبصرت في كلّ بقعة من دمشق التي أفارقها قطعة من حياتي، وفي كلّ طريق وفي كلّ مسجد وكلّ بستان وكل مئذنة تبدو لي على البعد، وفي قاسيون الذي يعانق هذا كله يحيطه بذراعَيه الحانيتين.

وهل حياة المرء إلاّ في قلوب أصدقائه ووجوه أصحابه، وجوانب داره ومشاهد بلده؟ من أجل ذلك اقترن الموت بالخروج من الديار، ومن أجل ذلك كانت الهجرة لله جهاداً في سبيل الله. واستغرقت في هذه الأفكار، ما نبّهني إلاّ أصوات مئات من أبواق السيارات! وإذا نحن قد سرنا وسار خلفنا المودّعون، في قطار

طور بواسطة نورين ميديا © 2015