كان هذا كله استطراداً وسبقاً للحوادث، فلنَعُد إلى سنة 1914، إلى السنة التي اشتعلت فيها نيران أول حرب عالمية في تاريخ البشر. ولكن لا تنتظروا مني أن أحدثكم عنها حديث المؤرّخ المحقّق، فإني أدوّن ذكريات إنسان كان طفلاً في تلك الأيام، لا أنقل عن ابن خلدون ولا عن شارل سنيوبوس (?).
مرّ عليّ في هذه المدرسة شهور لم أخالط فيها أحداً من الأولاد ولم أكلمهم إلا الكلمة التي لا بدّ منها؛ فقد نشأت -أول ما نشأت- على الوحدة، لم ألعب يوماً مع الأولاد في الحارة ولا زرت أحداً من لِدَاتي ولا زارني، فكنت طول عمري عائشاً وحدي، أنيسي كتابي، وإن زرت فالكبار من تلاميذ أبي أو إخوانه، كان يصحبني أحياناً معه فأستمع ولا أتكلم لأن الصغار لا يتكلمون في مجلس الكبار. لذلك كنت في المدرسة متوحّداً منفرداً.
حتى كان يوم رأيت فيه سماء «الصحن» الواسع مغطاة بسحابة سوداء دانية منا ليست بعيدة عنا، وكان يسّاقط شيء منها على رؤوسنا ... لا، لم تكُن قطرات المطر فلم تكُن سحابة ممطرة، وإنما كانت رِجْلاً من الجراد (?)، ملأ سماء الشام وأرضَها