تطالعنا، تحاول أن ترانا من حيث لا تراها أمها. ويوقّت بتوقيت آخر: بالندى، بالطلّ الذي يسيل إذا طلع عليه النهار ثم يتبخّر إن مسّه الحرّ:

غدَوْنا لهُ والشمسُ في خِدرِ أمّها ... تطالعُنا، والطَّلُّ لم يَجرِ ذائبُهْ

وكانت المعركة؛ ثار الغبار حتّى سدّ الأربعة الأقطار وجاء بالليل وسط النهار، فأظلم الكون حتّى لا ترى فيه إلاّ لمع السيوف ترتفع وتنزل. فبِمَ يذكّرك هذا المنظر؟ ألا يذكّرك بليل تراكب غمامه وتكاثف ظلامه، وتهاوت شُهبه حتّى لتراها تشقّ سواد الفضاء كأنها خيوط من الضياء:

كأنّ مُثارَ النَّقْعِ فوقَ رؤوسِنا ... وأسيافَنا ليلٌ تهاوَى كواكبُه

هذا ما شبّهه به بشار وهو أكمه! والأكمه الذي وُلد أعمى، فكيف رأى ووصف ما لا يراه المبصرون ولا يقدرون على وصفه؟ إنها العبقرية. لقد علّمت الطلاّب يومئذ التمييز بين العبقري وبين النابغة: بشّار عبقري ومروان بن أبي حفصة نابغة، ومن قبله كان امرؤ القيس عبقرياً وزهير نابغة، ومن بعده أبو تمام عبقري والبحتري نابغة، المتنبّي عبقري وأبو فراس نابغة، شوقي عبقري وحافظ إبراهيم نابغة.

العبقري يشقّ طريقاً جديداً، والنابغة يسلك الطريق المعروف ولكنه يجيء سابقاً في أول الركب. وقد يكون الطريق الجديد الذي كشفه العبقري وعراً أو ملتوياً، لذلك كان من صفات العبقري أنه يسبق حتّى ما يتعلّق أحد بغباره، وقد يتعثّر ويتأخّر،

طور بواسطة نورين ميديا © 2015