صاحب الإقطاع انتقل الإقطاع بأكمله إلى أكبر أبنائه (?)، وهذا يعني بقاء بقية الأبناء دون أرض، وهو وضع ممقوت في المجتمع الإقطاعي، الأمر الذي جعل الفرسان والأمراء المحرومين من الأرض يتحايلون للتغلب على هذه العقبة عن طريق الزواج من وريثة إقطاع، أو الالتجاء إلى العدوان والحرب للحصول على إقطاع. وكان أن ظهرت الحركة الصليبية لتفتح باباً جديداً أمام ذلك النفر من الأمراء والفرسان، فلبوا نداء البابوية، وأسرعوا إلى الإسهام في تلك الحركة لعلهم ينجحون في تأسيس إمارات لأنفسهم في الشرق، تعوضهم ما فاتهم في الغرب. أما الأمراء والفرسان الذين كانوا يمتلكون إقطاعات فقد وجدوا في المشاركة في الحركة الصليبية فرصة طيبة لتحقيق مجد أكبر والحصول على جاه أعظم.
وبدارستنا لمراجع الحروب الصليبية نرى أن أطماع أمراء الحملة الأولى تجلت في عدة مظاهر سياسية، فقد أخذوا يقسمون الغنيمة وهم في الطريق أي قبل أن يستولوا على الغنيمة فعلاً، وسوف نرى -بإذن الله تعالى- كيف استحكم النزاع فيما بينهم أمام أنطاكية لرغبة كل واحد منهم في الفوز بها وكيف من استطاع منهم أن يحقق لنفسه كسباً في الطريق قنع به وتخلى عن مشاركة بقية الصليبيين في الزحف على البيت المقدس، وهو الهدف الأساسي للحملة, وكثيراً مادب الخلاف بينهم - بعد استقرارهم - حول إمارة أو الفوز بمدينة، وعبثاً حاولت البابوية أن تتدخل لفض المنازعات بين الأمراء وتحذرهم بأن المسلمين يحيطون بهم، وأن الواجب الصليبي يستدعي تضامنهم لدفع الخطر عن أنفسهم, ولكن تلك الصيحات ذهبت أدراج الرياح، لأن هدف الأمراء كان ذاتياً سياسياً، ولم يكن يهمهم كثيراً رضا البابا أو سخطه، بل إن بعض الأمراء لم يحجموا عن مخالطة القوى الإسلامية المجاورة ضد إخوانهم الصليبيين مما يدل على أن الوازع الديني كثيراً ما ضعف عند أولئك الأمراء أمام مصالحهم السياسية (?)، أما بالنسبة للإمبراطور البيزنطي (الكسيوس) فإنه لم يعترض على أهداف أمراء الحملة، لأنه إذا تسنى للدولة البيزنطية استرداد ما كان لها من أملاك قبل غارات الأتراك عليها، جاز أن تقوم في تخومها إمارات مسيحية حاجزة، لها حق السيادة عليها، ولضمان الحصول على ذلك حرص الإمبراطور على الحصول على يمين الولاء من أمراء الغرب، وبذلك توافقت مصالح كلا الجانبين المسيحيين في القيام بالحرب والعدوان على الأرض الإسلامية.
والواقع أنه من العسير الفصل بين العوامل المادية والعوامل المعنوية التي دفعت المسيحيين إلى الحروب الصليبية، فالفقر والرغبة في الكسب، وروح المغامرة كانت عوامل هيأت الجو المناسب للحروب، غير أن هذه العوامل لم تظهر إلا بما نجم عن فكرة للحرب «المقدسة» وتخليص