وكان من أثر هذه الحرية الدينية المطلقة، أن تحققت في نفس الوقت حرية فكرية شاملة، وانطلقت الأقلام بما شاءت. وفي هذا الجو المشبع بالتسامح والحرية، كتب أبو عامر أحمد بن غرسية، وهو مولد من كتاب شرقي الأندلس، يرجع إلى أصل نصراني بشكنسي، سبي من ماردة صغيراً، ونشأ في بلاط دانية، في كنف مجاهد العامري صاحب مملكة دانية والجزائر (400 - 436 هـ)، وولده على اقبال الدولة (436 - 468 هـ) (?): كتب رسالته الشهيرة في تفضيل العجم على العرب، وهي رسالة قوية عجيبة، تفيض تحاملا ضد الجنس العربي، وتنوه بوضاعة منبته، وخسيس صفاته، وحقارة عيشه وميوله، وانغماسه في شهوات الجنس، وتشيد بالعكس بصفات العجم (والمقصود بها مختلف أجناس الفرنج)، وترفعهم عن الشهوات الدنية، وفروستهم، ونجدتهم، وتبحرهم في العلوم، وغير ذلك. وقد وجه ابن غرسية هذه الرسالة إلى صديقه الكاتب الشاعر أبي عبد الله بن الحداد، يعاتبه فيها، لأنه يخص ابن صمادح دون مجاهد وولده علي بمدائحه، وصاغها في أسلوب عنيف مقذع، ينبىء بما كان يضمره هذا الكاتب المولد للجنس العربي من المقت والحقد والكراهية. ولا تحمل هذه الرسالة تاريخاً ما. ولكنا نعرف مما تقدم أن ابن الحداد، الذي وجهت إليه، كان شاعراً في بلاط المعتصم بن صمادح أمير ألمرية، الذي حكم من سنة 433 - 484 هـ (?). والمرجح أنها وجهت إليه حوالي سنة 450 إلى سنة 460 هـ، وابن غرسية يقيم بدانية في كنف على إقبال الدولة، وإليك بعض ما جاء في هذه الرسالة في التنويه بفضائل العجم، ونقائص العرب:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015