وتوفي الرئيس أبو الحزم جهور بن محمد في المحرم سنة 435 هـ (1044 م) وقرطبة رافلة في حلل السلم والرخاء. فخلفه في الرياسة ابنه أبو الوليد محمد ابن جهور، فحاول في البداية أن يقتفي سياسة أبيه، وأقر الحكام وأرباب المراتب في مناصبهم، وكان من معاونيه في ديوان السلطان المؤرخ الكبير أبو مروان بن حيان حسبما يذكر لنا في حديثه عن الدولة الجَهْورية، وكان من محاسن الدولة الجهورية أيضاً، أن وزر لها الكاتب والشاعر الكبير أبو الوليد بن زيدون. وكان في بداية عهده بالخدمة قد وقع له حادث اصطدم فيه بأحد حكام قرطبة، فقضي عليه بالسجن، فاستغاث بأبي الوليد في حياة والده أبي الحزم، فشفع له وأقاله من عثرته. فلما ولي أبو الوليد الأمر بعد والده قرب إليه الشاعر، وعهد إليه بالنظر على أهل الذمة لبعض الأمور العارضة. ثم رفع مكانته وضاعف جرايته, وعهد إليه بالسفارة بينه وبين رؤساء الأندلس، والترسل إليهم. فلمع في منصبه، واشتهر ببارع رسائله ومحاوراته، كما اشتهر بروائع نظمه. والظاهر أن ابن زيدون كان يحيا حياة مضطربة تثير من حوله الشبهات، فهو من جهة قد هام بحب ولاّدة ابنة الخليفة الأموي السابق المستكفي، وكانت قد ظهرت في مجتمع قرطبة ببهوها الأدبي، الذي يزينه جمالها وشعرها الرائق، وأحدث هيامه بها وشعره المتيم فيها، حول سيرته الوزارية نوعاً من الفضيحة الغرامية، ومن جهة أخرى فإنه يبدو أن خصوم ابن زيدون في الحكومة وفي المجتمع، قد استطاعوا أن يصوروه لدى بني جهور، رجلا ناقص الولاء بجيش بمشاريع لا تتفق مع أهدافهم، وعلى أي حال فقد سخط الوزير أبو الوليد على وزيره الشاعر وألقاه إلى السجن. وأنفق ابن زيدون في ظلمات السجن عاماً وبعض عام، وهو يستعطف الوزير بقصائد ورسائل تذيب الجماد دون أن يتأثر بها. وفي النهاية حزم أمره على الفرار، وفر من سجنه بمعاونة بعض أصدقائه الأوفياء، وقصد إلى إشبيلية سنهّ (441 هـ - 1049 م) والتجأ إلى أميرها المعتضد بن عباد، فولاه وزارته. وألقى إليه مقاليد الأمور، حسبما نذكر بعد في موضعه (?).

طور بواسطة نورين ميديا © 2015