وباحث، كأنما كانت تخشى أن تتسرب روح التفكير الإسلامى إلى تفكير اسبانيا النصرانية، بعد أن بذلت لقتل هذا الروح كل وسيلة ممكنة. وكان الكُتّاب الإسبان أنفسهم، تحملهم نزعة الدين والجنس، يعرضون عن كل بحث وتنقيب فى هذه المصادر النفيسة، التى تلقى أكبر ضوء على تاريخ اسبانيا المسلمة وحضارتها فى العصور الوسطى، ويكتفون فى كتابة هذه المرحلة الطويلة الباهرة من تاريخ بلادهم، بالرجوع إلى المصادر الإسبانية التى تفيض بالتحامل والتعصب وغمر الخرافات. ولم تفق الحكومة الإسبانية من جمودها، ولم تفكر فى تنظيم تراث الأندلس الفكرى والتعريف به، قبل أواسط القرن الثامن عشر، فعندئذ انتدبت عالماً شرقياً يجمع بين الثقافتين الشرقية والغربية، هو ميخائيل الغزيرى اللبنانى، الذى يعرف فى الغرب باسم كازيرى Casiri، وعهدت إليه بدرس الآثار العربية، ووضع فهرس جامع لها. وكان الغزيرى بنشأته وثقافته الشرقية رجل المهمة، فلبى دعوة الحكومة الإسبانية، وعين فى سنة 1749 مديراً لمكتبة الإسكوريال، وأنفق هنالك بضعة أعوام يدرس المخطوطات العربية ويحققها، ثم بدأ بوضع فهرسه الجامع الذى عهد إليه بوضعه. وفى سنة 1760 صدر الجزء الأول من هذا الفهرس باللاتينية بعنوان رضي الله عنهibliotheca صلى الله عليه وسلمrabico - Hispana صلى الله عليه وسلمscurialensis " المكتبة العربية الإسبانية فى الإسكوريال"، وصدره الغزيرى بمقدمة طويلة تحدث فيها عن قيمة هذه المخطوطات العربية وأهميتها، وقسم هذه الآثار إلى عدة فنون، وبدأ بكتب اللغة وعلومها، ثم الشعر وأبوابه، ثم الفلسفة وما يتعلق بها، ثم الأخلاق فالطب والتاريخ الطبيعى، فالرياضة والهندسة والفلك، فالفقه وعلوم الدين والقرآن، وهى تشمل أكبر مجموعة. ثم الآثار النصرانية. وتبلغ محتويات هذا الجزء الأول من الفهرس 1628 مجلداً. وفى 1770 ظهر الجزء الثانى من الفهرس، محتوياً على كتب الجغرافيا والتاريخ ومنتهياً برقم 1851، وهو جملة ما أثبته الغزيرى فى فهرسه.
وكان أهم ما اتجهت إليه الأنظار بعد ظهور معجم الغزيرى، هو التنقيب فى مجموعة الإسكوريال عن الروايات العربية المتعلقة بتاريخ اسبانيا المسلمة، وسياسة الحكومات الإسلامية، وخواص المجتمع الإسلامى، فعنى طائفة من الباحثين الإسبان فى أواخر القرن الثامن عشر ومنهم أندريس وماسدى، ببحث تاريخ العلوم والآداب العربية، فأخرج أندريس كتابه عن "أصول الأدب"، وأخرج