سواء لبواعث كانت ترغمهم على اتباعها، أو لسياسة مستنيرة كانوا يؤثرونها، لم يشعروا قط بعاطفة من الولاء نحو تلك الحكومات المسلمة، التي كانت تبذل وسعها لحمايتهم واسترضائهم، بل لبثوا دائماً على ضغنهم وخصومتهم لها وتربصهم بها. ينتهزون أية فرصة للإيقاع بها، وممالأة الملوك النصارى، ومعونتهم بكل وسيلة على محاربتها، وتسهيل مهمتهم في غزوها والتنكيل بها. ولدينا في تاريخ الطوائف من ذلك أمثلة لا حصر لها. ففي قلمرية وافتتاحها (456 هـ - 1064 م) لعب النصارى المعاهدون - وقد كانوا كثرة هذه المنطقة - دوراً بارزاً في معاونة الجيش القشتالي المحاصر، وعاونه رهبان دير لورفان القريب من قلمرية بمؤنهم المختزنة، وسهلوا له بذلك الصمود، حتى اضطرت المدينة المحصورة إلى التسليم (?). ودأب النصارى المعاهدون في طليطلة أيام القادر بن ذى النون على تدبير الدسائس، وبث الفتن والاضطرابات داخل المدينة، والاتصال المستمر بألفونسو السادس وأعوانه، ومؤازرة الناقمين من المسلمين ضد الحكومة القائمة، والعمل بذلك على تحطيم كل جبهة للمقاومة الحقيقية، وانتهى الأمر بتذليل السبيل لألفونسو السادس لمحاصرة المدينة المفتوحة. ولعب النصارى المعاهدون في بلنسية مثل هذا الدور داخل بلنسية، لمعاونة السيد في مغامراته المتوالية لمحاصرة المدينة والاستيلاء عليها. وهكذا كان النصارى المعاهدون، في كل موطن وكل فرصة، يعملون ما وسعوا لتحطيم تلك الممالك الأسلامية التي تقوم بحمايتهم ورعايتهم، والتمهيد بذلك للقضاء عليها وسقوطها في أيدي الملوك النصارى. وهذا ما يعبر عنه الأستاذ بيدال بقوله: " إن نجم المعاهدين قد بزغ ثانية عقب انحلال الدولة الأندلسية وقيام دول الطوائف الضعيفة، واستطاعوا أن يؤدوا خدمات جليلة لقضية النصرانية والاسترداد النصراني (?).

ومن ثم فإنا نجد، عقب سقوط طليطلة، واشتداد روح العدوان من جانب إسبانيا النصرانية، شعور التقاطع والريب، ينمو ويشتد ضد جماعات النصارى المعاهدين في مختلف القواعد الأندلسية، وترتفع أصوات الفقهاء بالاشتداد في معاملتهم، وتجريدهم من كثير من ضروب الحرية والتسامح، التي كانوا يتمتعون بها من قبل. ومن ذلك مثلا ما دعا إليه ابن عبدون في رسالته عن الحسبة وهي

طور بواسطة نورين ميديا © 2015