والقسم الثاني: أن لا يكون القصد إلى الفاعل على هذا المعنى، ولكن على أنك أردت أن تحقّق على السامع أنه قد فعل، وتمنعه من الشك، فأنت لذلك تبدأ بذكره، وتوقعه أوّلا- ومن قبل أن تذكر الفعل (?) - في نفسه، لكي تباعده بذلك عن الشّبهة، وتمنعه من الإنكار، أو من أن يظنّ بك الغلط أو التزيّد. ومثاله قولك:
«هو يعطي الجزيل»، و «هو يحبّ الثناء»، لا تريد أن تزعم أنه ليس هنا من يعطي الجزيل ويحبّ الثناء غيره، ولا أن تعرّض بإنسان وتحطّه عنه، وتجعله لا يعطي كما يعطى، ولا يرغب كما يرغب، ولكنك تريد أن تحقّق على السامع أن إعطاء الجزيل وحبّ الثناء دأبه، وأن تمكّن ذلك في نفسه.
ومثاله في الشعر: [من الطويل]
هم يفرشون اللّبد كلّ طمرّة ... وأجرد سبّاح يبذّ المغالبا (?)
لم يرد أن يدّعي لهم هذه الصفة دعوى من يفردهم بها، وينصّ عليهم فيها، حتى كأنه يعرّض بقوم آخرين، فينفي أن يكونوا أصحابها. هذا محال. وإنما أراد أن يصفهم بأنّهم فرسان يمتهدون صهوات الخيل، وأنّهم يقتعدون الجياد منها، وأن ذلك دأبهم، من غير أن يعرّض لنفيه عن غيرهم، إلّا أنه بدأ بذكرهم لينبه السامع لهم، ويعلم بديّا (?) قصده إليهم بما في نفسه من الصفة، ليمنعه بذلك من الشكّ، ومن توهّم أن يكون قد وصفهم بصفة ليست هي لهم، أو أن يكون قد أراد غيرهم فغلط إليه.
وعلى ذلك قول الآخر: [من الطويل]
هم يضربون الكبش يبرق بيضه، ... على وجهه من الدّماء سبائب (?)