واعلم أنا وإن كنا نفسّر «الاستفهام» في مثل هذا بالإنكار، فإن الذي هو محض المعنى: أنه ليتنبه السامع حتى يرجع إلى نفسه فيخجل ويرتدع ويعيا بالجواب، إمّا لأنه قد ادعى القدرة على فعل لا يقدر عليه، فإذا ثبت على دعواه قيل له: «فافعل»، فيفضحه ذلك، وإمّا لأنه همّ بأن يفعل ما لا يستصوب فعله، فإذا روجع فيه تنبّه وعرف الخطأ، وإمّا لأنه جوّز وجود أمر لا يوجد مثله، فإذا ثبت على تجويزه قبّح على نفسه، وقيل له: «فأرناه في موضع وفي حال، وأقيم شاهدا على أنه كان في وقت».
ولو كان يكون للإنكار، وكان المعنى فيه من بدء الأمر، لكان ينبغي أن لا يجيء فيما لا يقول عاقل إنه يكون، حتى ينكر عليه، كقولهم: «أتصعد إلى السماء؟»، «أتستطيع أن تنقل الجبال؟»، «أإلى ردّ ما مضى سبيل؟».
وإذ قد عرفت ذلك، فإنه لا يقرّر بالمحال، وبما لا يقول أحد إنه يكون، إلا على سبيل التمثيل، وعلى أن يقال له: «إنك في دعواك ما ادّعيت بمنزلة من يدّعي هذا المحال، وإنك في طمعك في الذي طمعت فيه بمنزلة من يطمع في الممتنع».
وإذ قد عرفت هذا، فممّا هو من هذا الضرب قوله تعالى: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ [الزخرف: 40]، ليس إسماع الصّم مما يدّعيه أحد فيكون ذلك للإنكار، وإنّما المعنى فيه التمثيل والتشبيه، وأن ينزّل الذي يظنّ بهم أنهم يسمعون، أو أنه يستطيع إسماعهم، منزلة من يرى أنه يسمع الصم ويهدى العمي ثم المعنى في تقديم الاسم وأن لم يقل: «أتسمع الصمّ»، هو أن يقال للنبي صلى الله عليه وسلّم:
«أأنت خصوصا قد أوتيت أن تسمع الصمّ؟»، وأن يجعل في ظنّه أنه يستطيع إسماعهم، بمثابة من يظنّ أنه قد أوتي قدرة على إسماع الصّمّ.
ومن لطيف ذلك قول ابن أبي عيينة: [من الكامل]
فدع الوعيد فما وعيدك ضائري، ... أطنين أجنحة الذّباب يضير (?)؟
جعله كأنه قد ظنّ أنّ طنين أجنحة الذباب بمثابة ما يضير، حتى ظنّ أن وعيده يضير.