فينحل اللّفظ ما ليس له، ولا تزال ترى الشّبهة قد دخلت عليك في الكلام قد حسن من لفظه ونظمه، فظننت أن حسنه ذلك كلّه للّفظ منه دون النظم.

مثال ذلك: أن تنظر إلى قول ابن المعتز: [من الطويل]

وإنّي على إشفاق عيني من العدى ... لتجمح منّي نظرة ثمّ أطرق (?)

فترى أنّ هذه الطّلاوة وهذا الظرف، إنما هو لأن جعل النّظر «يجمح» وليس هو لذلك، بل لأن قال في أول البيت «وإنّي» حتى دخل اللّام في قوله «لتجمح»، ثم قوله: «منّي» ثم لأن قال «نظرة» ولم يقل «النّظر» مثلا، ثم لمكان «ثم» في قوله:

«ثم أطرق»، وللطيفة أخرى نصرت هذه اللطائف، وهي اعتراضه بين اسم «إن» وخبرها بقوله: «على إشفاق عيني من العدى».

وإن أردت أعجب من ذلك فيما ذكرت لك، فانظر إلى قوله، وقد تقدم إنشاده قبل: [من البسيط]

سالت عليه شعاب الحيّ حين دعا ... أنصاره بوجوه كالدّنانير (?)

فإنك ترى هذه الاستعارة، على لطفها وغرابتها، إنما تمّ لها الحسن وانتهى إلى حيث انتهى، بما توخّى في وضع الكلام من التقديم والتأخير، وتجدها قد ملحت ولطفت بمعاونة ذلك ومؤازرته لها. وإن شككت فاعمد إلى الجارّين والظرف، فأزل كلّا منها من مكانه الذي وضعه الشاعر فيه، فقل: «سالت شعاب الحيّ بوجوه كالدنانير عليه حين دعا أنصاره»، ثم انظر كيف يكون الحال، وكيف يذهب الحسن والحلاوة؟

وكيف تعدم أريحيّتك التي كانت؟ وكيف تذهب النّشوة التي كنت تجدها؟.

وجملة الأمر أن هاهنا كلاما حسنه للّفظ دون النظم، وآخر حسنه للنظم دون اللفظ، وثالثا قد أتاه الحسن من الجهتين، ووجبت له المزيّة بكلا الأمرين. والإشكال في هذه الثالث، وهو الذي لا تزال ترى الغلط قد عارضك فيه، وتراك قد حفت فيه (?) على النّظم، فتركته وطمحت ببصرك إلى اللفظ، وقدّرت في حسن كان به وباللّفظ، أنه للّفظ خاصة. وهذا هو الذي أردت حين قلت لك: «إن في الاستعارة ما لا يمكن بيانه إلّا من بعد العلم بالنظم والوقوف على حقيقته».

طور بواسطة نورين ميديا © 2015