كانت لكون اللّفظ دالّا، استحال أن يوصف بها المعنى، كما يستحيل أن يوصف المعنى بأنه «دالّ» مثلا، فاعرفه.

فإن قيل: فماذا دعا القدماء إلى أن قسّموا الفضيلة بين المعنى واللفظ فقالوا:

«معنى لطيف، ولفظ شريف»، وفخّموا شأن اللّفظ وعظّموه حتى تبعهم في ذلك من بعدهم، وحتى قال أهل النّظر: «إنّ المعاني لا تتزايد، وإنما تتزايد الألفاظ»، فأطلقوا كما ترى كلاما يوهم كل من يسمعه أن المزية في حاق (?) اللفظ؟.

قيل له: لما كانت المعاني إنما تتبيّن بالألفاظ، وكان لا سبيل للمرتّب لها والجامع شملها، إلى أن يعلمك ما صنع في ترتيبها بفكره، إلّا بترتيب الألفاظ في نطقه، تجوّزوا فكنوا عن ترتيب المعاني بترتيب الألفاظ، ثم بالألفاظ بحذف «الترتيب»، ثم أتبعوا ذلك من الوصف والنّعت ما أبان الغرض وكشف عن المراد، كقولهم: «لفظ متمكّن»، يريدون أنه بموافقة معناه لمعنى ما يليه كالشيء الحاصل في مكان صالح يطمئن فيه.

«ولفظ قلق ناب»، يريدون أنه من أجل أن معناه غير موافق لما يليه، كالحاصل في مكان لا يصلح له، فهو لا يستطيع الطّمأنينة فيه إلى سائر ما يجيء في صفة اللفظ، مما يعلم أنه مستعار له من معناه، وأنهم نحلوه إيّاه، بسبب مضمونه ومؤدّاه.

هذا، ومن تعلّق بهذا وشبهه واعترضه الشك فيه، بعد الذي مضى من الحجج، فهو رجل قد أنس بالتقليد، فهو يدعو الشبهة إلى نفسه من هاهنا وثمّ. ومن كان هذا سبيله،

فليس له دواء سوى السكوت عنه، وتركه وما يختاره لنفسه من سوء النظر وقلّة التدبّر.

قد فرغنا الآن من الكلام على جنس المزيّة، وأنها من حيز المعاني دون الألفاظ، وأنها ليست لك حيث تسمع بأذنك، بل حيث تنظر بقلبك، وتستعين بفكرك، وتعمل رويّتك، وتراجع عقلك، وتستنجد في الجملة فهمك، وبلغ القول في ذلك أقصاه، وانتهى إلى مداه، وينبغي أن نأخذ الآن في تفصيل أمر المزيّة، وبيان الجهات التي منها تعرض. وإنه لمرام صعب ومطلب عسير، ولولا أنه على ذلك، لما

طور بواسطة نورين ميديا © 2015