ثم إن هاهنا معنى شريفا قد كان ينبغي أن نكون قد ذكرناه في أثناء ما مضى من كلامنا، وهو أنّ العاقل إذا نظر علم علم ضرورة أنه لا سبيل له إلى أن يكثّر معاني الألفاظ أو يقلّلها، لأن المعاني المودعة في الألفاظ لا تتغيّر على الجملة عمّا أراده واضع اللّغة، وإذا ثبت ذلك، ظهر منه أنّه لا معنى لقولنا: «كثرة المعنى مع قلّة اللفظ»، غير أن «المتكلم يتوصّل بدلالة المعنى على المعنى إلى فوائد، لو أنه أراد الدّلالة عليها باللّفظ لاحتاج إلى لفظ كثير.
واعلم أنّ القول الفاسد والرأي المدخول، إذا كان صدره عن قوم لهم نباهة وصيت وعلوّ منزلة في أنواع من العلوم غير العلم الذي قالوا ذلك القول فيه، ثم وقع في الألسن فتداولته ونشرته، وفشا وظهر، وكثر الناقلون له والمشيدون بذكره صار ترك النّظر فيه سنّة، والتقليد دينا، ورأيت الذين هم أهل ذلك العلم وخاصّته والممارسون له، والذين هم خلقاء أن يعرفوا وجه الغلط والخطأ فيه لو أنهم نظروا فيه كالأجانب الذين ليسوا من أهله، في قبوله والعمل به والرّكون إليه، ووجدتهم قد أعطوه مقادتهم، وألانوا له جانبهم، وأوهمهم النّظر إلى منتماه ومنتسبه، ثم اشتهاره وانتشاره وإطباق الجمع بعد الجمع عليه أن الضّنّ به أصوب، والمحاماة عليه أولى. ولربّما بل كلّما ظنّوا أنه لم يشع ولم يتّسع، ولم يروه خلف عن سلف، وآخر عن أوّل، إلّا لأن له أصلا صحيحا، وأنه أخذ من معدن صدق، واشتقّ من نبعة كريمة، وأنه لو كان مدخولا لظهر الدّخل (?) الذي فيه على تقادم الزّمان وكرور الأيام. وكم من خطأ ظاهر ورأي فاسد حظي بهذا السّبب عند النّاس، حتى بوّءوه في أخصّ موضع من قلوبهم، ومنحوه المحبة الصادقة من نفوسهم، وعطفوا عليه عطف الأمّ على واحدها. وكم من داء دويّ قد استحكم بهذه العلّة، حتى أعيا علاجه، وحتّى بعل به (?) الطبيب.
ولولا سلطان هذا الذي وصفت على الناس، وأنّ له أخذة تمنع القلوب عن التدبّر، وتقطع عنها دواعي التفكّر لما كان لهذا الّذي ذهب إليه القوم في أمر «اللفظ» هذا التمكّن وهذه القوة، ولا كان يرسخ في النفوس هذا الرّسوخ، وتنشعب عروقه هذا الشّعب، مع الذي بان من تهافته وسقوطه وفحش الغلط فيه، وأنّك لا ترى في أديمه من أين نظرت، وكيف صرّفت وقلّبت مصحّا، ولا تراه باطلا فيه شوب من الحق، وزيفا فيه شيء من الفضّة، ولكن ترى الغشّ بحتا والغيظ صرفا، ونسأل الله التوفيق.