يبين ذلك قوله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ [المائدة:
73] وقد استقرّ في العرف أنهم إذا أرادوا إلحاق اثنين بواحد في وصف من الأوصاف، وأن يجعلوهما شبيهين له، قالوا: «هم ثلاثة»، كما يقولون إذا أرادوا إلحاق واحد بآخر وجعله في معناه: «هما اثنان»، وعلى هذا السبيل كأنهم يقولون:
«هم يعدّون معدّا واحدا»، ويوجب لهم التساوي والتّشارك في الصفة والرّتبة، وما شاكل ذلك.
واعلم أنه لا معنى لأن يقال: إنّ القول حكاية، وأنه إذا كان حكاية لم يلزم منه إثبات الآلهة، لأنه يجري مجرى أن تقول: «إنّ من دين الكفّار أن يقولوا: الآلهة ثلاثة»، وذلك لأن الخطاب في الآية للنّصارى أنفسهم. ألا ترى إلى قوله تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ [النساء: 171]. وإذا كان الخطاب للنصارى، كان تقدير الحكاية محالا، «فلا تقولوا» إذن في معنى: «لا تعتقدوا»، وإذا كان في معنى الاعتقاد، لزم إذا قدر «ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة»، ما قلنا إنّه يلزم من إثبات الآلهة. وذلك لأنّ الاعتقاد يتعلق بالخبر لا
بالمخبر عنه. فإذا قلت: «لا تعتقد أن الأمراء ثلاثة»، كنت نهيته عن أن يعتقد كون الأمراء على هذه العدّة، لا عن أن يعتقد أن هاهنا أمراء. هذا ما لا يشكّ فيه عاقل. وإنما يكون النّهي عن ذلك إذا قلت: «لا تعتقد أن هاهنا أمراء»، لأنك حينئذ تصير كأنك قلت: لا تعتقد وجود أمراء.
هذا، ولو كان الخطاب مع المؤمنين، لكان تقدير الحكاية لا يصحّ أيضا. ذاك لأنه لا يجوز أن يقال: «إن المؤمنين نهوا عن أن يحكوا عن النصارى مقالتهم، ويخبروا عنهم بأنهم يقولون كيت وكيت»، كيف؟ وقد قال الله تعالى: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة: 30]؟ ومن أين يصحّ النهي عن حكاية قول المبطل، وفي ترك حكايته ترك له وكفره، وامتناع من النّعي عليه، والإنكار لقوله، والاحتجاج عليه، وإقامة الدّليل على بطلانه، لأنه لا سبيل إلى شيء من ذلك إلّا من بعد حكاية القول والإفصاح به، فاعرفه.