فإن شككت في استحالته لم تكلّم. وإن قلت: نعم، هو محال.
قيل لك: فإذا كان محالا أن يجب في الألفاظ ترتيب من غير أن يتوخّى في معانيها معاني النحو، كان قولك: «إن الشاعر ابتدأ فيها ترتيبا»، قولا بما لا يتحصّل.
وجملة الأمر أنه لا يكون ترتيب في شيء حتّى يكون هناك قصد إلى صورة وصفة إن لم يقدّم فيه ما قدّم، ولم يؤخّر ما أخّر، وبدئ بالذي ثنّي به، أو ثنّي بالذي ثلّث به، لم تحصل لك تلك الصورة وتلك الصّفة. وإذا كان كذلك، فينبغي أن تنظر إلى الذي يقصد واضع الكلام أن يحصل له من الصورة والصّفة: أفي الألفاظ يحصل له ذلك، أم في معاني الألفاظ؟ وليس في الإمكان أن يشكّ عاقل إذا نظر، أن ليس ذلك في الألفاظ، وإنما الذي يتصوّر أن يكون مقصودا في الألفاظ هو «الوزن»، وليس هو من كلامنا في شيء، لأنّا نحن فيما لا يكون الكلام كلاما إلّا به، وليس للوزن مدخل في ذلك.
واعلم أني على طول ما أعدت وأبدأت، وقلت وشرحت، في هذا الذي قام في أوهام الناس من حديث «اللفظ»، لربّما ظننت أني لم أصنع شيئا، وذاك أنك ترى الناس كأنّه قد قضي عليهم أن يكونوا في هذا الذي نحن بصدده، على التقليد البحت، وعلى التوهّم والتخيّل، وإطلاق اللّفظ من غير معرفة بالمعنى، قد صار ذاك الدّأب والدّيدن، واستحكم الداء منه الاستحكام الشديد. وهذا الذي بيّناه وأوضحناه، كأنك ترى أبدا حجازا بينهم وبين أن يعرفوه، وكأنّك تسمعهم منه شيئا تلفظه أسماعهم، وتتكرّهه نفوسهم، وحتى كأنّه كلّما كان الأمر أبين، كانوا عن العلم به أبعد، وفي توهّم خلافه أقعد، وذاك لأن الاعتقاد الأوّل قد نشب في قلوبهم، وتأشّب (?) فيها، ودخل بعروقه في نواحيها، وصار كالنبات السّوء الذي كلما قلعته عاد فنبت.
والذي له صاروا كذلك، أنهم حين رأوهم يفردون «اللفظ» عن «المعنى»، ويجعلون له حسنا على حدة، ورأوهم قد قسّموا الشّعر فقالوا: «إنّ منه ما حسن