الكلام على ضربين: ضرب أنت تصل منه إلى الغرض بدلالة اللّفظ وحده، وذلك إذا قصدت أن تخبر عن «زيد» مثلا بالخروج على الحقيقة، فقلت: «خرج زيد»، وبالانطلاق عن «عمرو» فقلت: «عمرو منطلق»، وعلى هذا القياس- ضرب آخر أنت لا تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، ولكن يدلّك اللفظ على معناه الذي يقتضيه موضوعه في اللغة، ثم تجد لذلك المعنى دلالة ثانية تصل بها إلى الغرض. ومدار هذا الأمر على «الكناية» و «الاستعارة» و «التّمثيل»، وقد مضت الأمثلة فيها مشروحة مستقصاة. أو لا ترى أنك إذا قلت: «هو كثير رماد القدر»، أو قلت: «طويل النجاد»، أو قلت في المرأة: «نؤوم الضحى»، فإنك في جميع ذلك لا تفيد غرضك الذي تعني من مجرّد اللفظ، ولكن يدل اللّفظ على معناه الذي يوجبه ظاهره، ثم يعقل السامع من ذلك المعنى، على سبيل الاستدلال، معنى ثانيا هو غرضك، كمعرفتك من «كثير رماد القدر» أنه مضياف، ومن «طويل النجاد» أنّه طويل القامة، ومن «نؤوم الضحى» في المرأة أنها مترفة مخدومة، لها من يكفيها أمرها.
وكذا إذا قال: «رأيت أسدا»، ودلّك الحال على أنّه لم يرد السبع، علمت أنه أراد التشبيه، إلا أنه بالغ فجعل الذي رآه بحيث لا يتميّز عن الأسد في شجاعته.
وكذلك تعلم من قوله: «بلغني أنك تقدّم رجلا وتؤخّر أخرى»، أنّه أراد التردد في أمر البيعة واختلاف العزم في الفعل وتركه، على ما مضى الشرح فيه.
وإذ قد عرفت هذه الجملة، فهاهنا عبارة مختصرة وهي أن تقول: «المعنى»، و «معنى المعنى»، تعني بالمعنى المفهوم من ظاهر اللفظ والّذي تصل إليه بغير واسطة، و «بمعنى المعنى»، أن تعقل من اللّفظ معنى، ثم يفضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر، كالذي فسّرت لك.
وإذ قد عرفت ذلك، فإذا رأيتهم يجعلون الألفاظ زينة للمعاني وحلية عليها، أو يجعلون المعاني كالجواري، والألفاظ كالمعارض (?) لها، وكالوشي المحبّر (?) واللّباس الفاخر والكسوة الرّائقة، إلى أشباه ذلك مما يفخّمون به أمر اللفظ، ويجعلون المعنى ينبل به ويشرف، فاعلم (?) أنه يصفون كلاما قد أعطاك المتكلم أغراضه فيه من طريق