ولم يكن هذا الاشتباه وهذا الغلط إلّا لأنه ليس في جملة الخفايا والمشكلات أغرب مذهبا في الغموض، ولا أعجب شأنا، من هذه التي نحن بصددها، ولا أكثر تفلّتا من الفهم وانسلالا منها، وأنّ الذي قاله العلماء والبلغاء في صفتها والإخبار عنها، رموز لا يفهمهما إلا من هو في مثل حالهم من لطف الطبع، ومن هو مهيّأ لفهم تلك الإشارات، حتى كأنّ تلك الطباع اللطيفة وتلك القرائح والأذهان، قد تواضعت فيما بينها على ما سبيله سبيل الترجمة يتواطأ عليها قوم فلا تعدوهم، ولا يعرفها من ليس منهم.

وليت شعري من أين لمن لم يتعب في هذا الشأن، ولم يمارسه، ولم يوفّر عنايته عليه، أن ينظر إلى قول الجاحظ وهو يذكر إعجاز القرآن:

«ولو أنّ رجلا قرأ على رجل من خطبائهم وبلغائهم سورة قصيرة أو طويلة، لتبيّن له في نظامها ومخرجها من لفظها وطابعها، أنه عاجز عن مثلها، ولو تحدّي بها أبلغ العرب لأظهر عجزه عنها» (?).

وقوله وهو يذكر رواة الأخبار:

«ورأيت عامّتهم، فقد طالت مشاهدتي لهم، وهم لا يقفون على الألفاظ المتخيّرة، والمعاني المنتخبة، والمخارج السهلة، والدّيباجة الكريمة، وعلى الطبع المتمكّن، وعلى السّبك الجيد، وعلى كل كلام له ماء ورونق» (?).

وقوله في بيت الحطيئة: [من الطويل]

متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد

«وما كان ينبغي أن يمدح بهذا البيت إلّا من هو خير أهل الأرض، على أني لم أعجب بمعناه أكثر من عجبي بلفظه، وطبعه، ونحته، وسبكه، فيفهم منه شيئا أو يقف للطابع والنّظام والنّحت والسّبك والمخارج السّهلة، على معنى، أو يحلى منه بشيء، وكيف بأن يعرفه؟ ولربما خفي على كثير من أهله».

واعلم أنّ الداء الدّويّ (?)، والذي أعيى أمره في هذا الباب، غلط من قدّم الشعر بمعناه، وأقل الاحتفال باللفظ، وجعل لا يعطيه من المزيّة إن هو أعطى إلّا ما فضل عن المعنى يقول: «ما في اللفظ لولا المعنى؟ وهل الكلام إلا بمعناه؟». فأنت تراه لا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015