ومثله قول جرير: [من الطويل]
أمنّيت المنى وخلبت حتّى ... تركت ضمير قلبي مستهاما (?)
الغرض أن يثبت أنه كان منها تمنية وخلابة، وأن يقول لها: أهكذا تصنعين؟
وهذه حيلتك في فتنة الناس؟
ومن بارع ذلك ونادره، ما تجده في هذه الأبيات. روى المرزبانيّ في «كتاب الشعر» بإسناد، قال: لما تشاغل أبو بكر الصديق رضي الله عنه بأهل الرّدة، استبطأته الأنصار فكلّموه، فقال: إمّا كلّفتموني أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فو الله ما ذاك عندي ولا عند أحد من الناس، ولكنّي والله ما أوتى من مودّة لكم ولا حسن رأي فيكم، وكيف لا نحبّكم؟ فو الله ما وجدت مثلا لنا ولكم إلّا ما قال طفيل الغنويّ لبني جعفر ابن كلاب: [من الطويل]
جزى الله عنّا جعفرا حين أزلقت ... بنا نعلنا في الواطئين فزلّت
أبوا أن يملّونا، ولو أنّ أمّنا ... تلاقي الّذي لاقوه منّا لملّت
هم خلطونا بالنّفوس وألجئوا ... إلى حجرات أدفأت وأظلّت (?)
فيها حذف مفعول مقصود قصده في أربعة مواضع قوله: «لملّت»، و «ألجئوا» و «أدفأت» و «أظلّت»، لأن الأصل: «لملّتنا» و «ألجئونا إلى حجرات أدفأتنا وأظلّتنا»، إلّا أنّ الحال على ما ذكرت لك، من أنه في حدّ المتناسى، حتى كأن لا قصد إلى مفعول، وكأن الفعل قد أبهم أمره فلم يقصد به قصد شيء يقع عليه، كما يكون إذا قلت: «قد ملّ فلان»، تريد أن تقول: قد دخله الملال، من غير أن تخصّ شيئا، بل لا تزيد على أن تجعل الملال من صفته، وكما تقول: «هذا بيت يدفئ ويظلّ»، تريد أنه بهذه الصفة.
واعلم أن لك في قوله: «أجرّت»، و «لملّت»، فائدة أخرى زائدة على ما ذكرت من توفير العناية على إثبات الفعل، وهي أن تقول: كان من سوء بلاء القوم ومن تكذيبهم عن القتال (?) ما يجرّ مثله، وما القضية فيه أنه لا يتّفق على قوم إلّا خرس شاعرهم فلم يستطع نطقا، وتعديتك الفعل تمنع من هذا المعنى، لأنك إذا قلت: