بيان في "إن" ومجيئها للتأكيد:
385 - ثم إنَّ الأصْلَ الذي ينبغي أنْ يكونَ عليه البناءُ، هو الذي دُوِّن في الكتبِ، من أنها للتأكيدِ، وإذا كانَ قد ثَبَت ذلكَ، فإِذا كان الخبرُ بأمْرٍ ليس للمخاطَبِ ظنٌّ في خِلافهِ البتَّةَ، ولا يكونُ قد عقد في نسه أنَّ الذي تزعُم أَنه كائنٌ غيرُ كائنٍ، وأنَّ الذي تزعُم أنه لم يكنْ كائنٌ فأنتَ لا تحتاجُ هناك إلى "إنَّ"، وإنما تحتاجُ إليها إذا كاَن له ظَنُّ في الخلاف، وعقد قلب على نفي ما ثبت أو إثبات ما ننفي. ولذلك تَراها تزدادُ حُسْناً إذا كان الخبرُ بأمرٍ يَبْعُدُ مثْلُه في الظنِّ، وبشيءٍ قد جرتْ عادةُ الناسِ بخلافِهِ، كقول أبي نُوَاس:
عليكَ باليأسِ منَ الناسِ ... إنَّ غِنى نَفْسِك في الياسِ1
فقد تَرى حُسْنَ موقعِها، وكيف قبولُ النفسِ لها، وليسَ ذلك إلاَّ لأنَّ الغالِبَ على الناس أنهم لا يَحمِلون أنفسَهم على اليأس، ولا يدَعُونَ الرجاءَ والطمَعَ، ولا يعترفُ كلُّ أحدٍ ولا يُسلِّمُ أنَّ الغِنى في اليأس. فلمَّا كان كذلك، كان الموضعُ مَوْضعَ فقرٍ إلى التأكيدِ، فلذلك كان من حُسْنها ما تَرى.
ومثلُه سواءٌ قولُ محمد بن وهب:
أجَارتَنا إنَّ التَّعَفُّفَ باليَاسِ ... وصَبْراً على اسْتِدْرارِ دُنْيا بإبْساسِ
حَرِيَّانِ أنْ لا يَقْذِفا بمذلَّةٍ ... كَريماً وأنْ لا يُحوِجاهُ إلى الناسِ
أجارَتنا إنَّ القِداحَ كواذبٌ ... وأكْثرُ أَسْبابِ النّجاحِ معَ الياس2