فصل: بيان دقيق في شأن عطف الجمل:
279 - هَذا فنٌّ من القَول خاصُّ دقيقٌ. إعلَمْ أنَّ مما يَقِلُّ نظَرُ الناسِ فيه من أَمْر "العطفِ" أنَّه قد يُؤْتى بالجملة فلا تعطف على ما يليها، لوكن تُعْطَفُ على جملةٍ بينها وبينَ هذه التي تُعْطفُ جملةٌ أو جملتانِ، مثالُ ذلك قولُ المتنبي:
تَولَّوْا بغْتَةً فكأَنَّ بيْناً ... تَهَيَّبني فَفاجَأَني اغْتيالا
فكانَ مَسِيرُ عِيسِهِمُ ذَميلاً ... وسيرُ الدمعِ إثْرَهُمُ انْهِمالا1
قولُه: "فكان مَسيرُ عيسهِم"، معطوفٌ على "تولَّوا بَغتةً"، دونَ ما يليهِ من قولِه: "ففاجأني"، لأنَّا إنْ عطفناه على هذا الذي يليه أفسَدْنا المعنى، من حيثُ إنه يدخلُ في معنى "كأَنَّ"، وذلك يؤدِّي إلى أن لا يكونَ مسيرُ عيسهِم حقيقةً، ويكونَ مُتَوهَّماً، كما كان تهيُّبُ البينِ كذلك.
280 - وهذا أصْلٌ كبيرٌ. والسببُ في ذلك أن الجملةَ المتوسِّطةَ بين هذه المعطوفةِ أخيراً، وبين المعطوفِ عليها الأولى، تَرتبطُ في معناها بتلك الأولى، كالذي ترى أن قوله: "فكأن بيننا تهيَّبني"، مرتبطٌ بقوله: "تَولَّوا بَغتة"، وذلك أنَّ الثانية مسبَّبٌ والأُولى سبَبٌ. ألا ترَى أنَّ المعنى: "تولوا بغتة فتوهمت أن بيتًا تهيبني؟ " ولا شكَّ أنَّ هذا التوهُّم كان بسببِ أنْ كان التوليِّ بغتةً. وإِذا كان كذلك، كانتْ مع الأولى كالشيءِ الواحدِ، وكان منزلتُها منها منزلة المعفعول والظرفِ وسائرِ ما يجيءُ بعدَ تمام الجملةِ من مَعْمولاتِ الفعل، مما لا يمكنُ إفرادُه عن الجملة2، وأن يعتد كلامًا على جدته.