قال ابن قدامة: "ولنا قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لأم سلمة في غسل الجنابة: إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين" رواه مسلم، ولأنه غسل واجب فلم يجب فيه إمرار اليد كغسل الجنابة" (?) .
قلت:
بعد النظر في هذه الأحاديث تبين لي عدم تعارضها في الحقيقة. وذلك لأن ملء الأكف ثلاث مرات يبلل البشرة والرأس، ولذا أطلق عليه لفظ إفاضة، والإفاضة تدل على وصول الماء إلى كل جزء من الرأس والجسد، ولو كان المعنى وصول الماء إلى بعض أجزاء الرأس أو أغلبها لعبر بالرش، ولم يكن ذلك منه -صلى الله عليه وسلم-، بل ورد في النصوص الثابتة لفظ الإفاضة، والغسل، والصب، وكلها تعني إيصال الماء إلى كل جزء من أجزاء الجسد. ولما كان -صلى الله عليه وسلم- حريصاً على وصول الماء للرأس وكانت كثافة الشعر ربما تفرق الماء بما فيها من الجفاف وبعض الدهون؛ كان -صلى الله عليه وسلم- يخلل الشعر ليسهل وصول الماء إلى البشرة. أما الشعر فليس بواجب إيصال الماء إليه أو غسله، يدل على ذلك حديث أم سلمة، فإن الثلاث حثيات لا يغسلن الرأس والشعر إذا كان مضفرا، بل يبقى أجزاء من الشعر لا يصلها الماء، وهذه يعفى عنها بنص الحديث وظاهره.
كما تبين كذلك من هذا المبحث أن حديث "إن تحت كل شعرة جنابة" ضعيف لا يقوم به حجة. ولو صح من بعد ذلك؛ لما كان فيه حجة، وذلك لأن إيجاب الدلك لا يثبت بهذه الأدلة، وغاية ما تدل عليه هذه الأحاديث هو التأكيد على إيصال الماء إلى جميع أجزاء الجسد، مع التحري.
وعليه فمذهب الجمهور والظاهرية هو الراجح، وما ذهب إليه مالك من إيجاب التدلك مرجوح. ... والله أعلم.
المبحث السادس:
التستر عند الغسل في الخلوة.
وفي باب الغسل يعلمنا -صلى الله عليه وسلم- الآداب التي ينبغي أن يتأدب بها المسلم عند غسله.