ومن المعلوم ضرورة أنه لا يمكن لرجل كاذب، مداوم على الكذب، ويدعي كل يوم أنه أتاه وحي جديد من الله تعالى، ومع هذا لم يستطع أحد أن يلاحظ ذلك عليه ويعرف حقيقته، فإنه من كان في قلبه خلاف ما يبطن فلا بد أن يزل، وأن تعرف حقيقته بفلتات لسانه ولحن قوله، كما قال تعالى عن المنافقين: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:30] .

وقد روي عن عثمان بن عفان (أنه قال: (ما أسر أحد سريرة إلا أبداها على صفحات وجهه وفلتات لسانه) (?) .

(واعلم أنك مهما أزحت عن نفسك راحة اليقين. وأرخيت لها عنان الشك، وتركتها تفترض أسوأ الفروض في الواقعة الواحدة، والحادثة الفذة من هذه السيرة المكرمة، فإنك متى وقفت منها على مجموعة صالحة، لا تملك أن تدفع هذا اليقين عن نفسك، إلا بعد أن تتهم وجدانك وتشك في سلامة عقلك، فنحن قد نرى الناس يدرسون حياة الشعراء في أشعارهم، فيأخذون عن الشاعر من كلامه صورة كاملة؛ تتمثل فيها عقائده، وعوائده، وأخلاقه، ومجرى تفكيره، وأسلوب معيشته، ولا يمنعهم زخرف الشعر وطلاؤه عن استنباط خيلته (?) ، وكشف رغوته عن صريحه (?) ؛ ذلك أن للحقيقة قوة غلابة تنفذ من حجب الكتمان، فتُقرأ بين السطور وتُعرف في لحن القول، والإنسان مهما أمعن في تصنعه ومداهنته لا يخلو من فلتات في قوله وفعله، تنم على طبعه إذا أُحفِظ أو أُحرج، أو احتاج أو ظفر، أو خلا بمن يطمئن إليه.

ومهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تعلم

فما ظنك بهذه الحياة النبوية، التي تعطيك في كل حلقة من حلقاتها مرآة صافية لنفس صاحبها، فتريك باطنه من ظاهره، وتريك الصدق والإخلاص ماثلاً في كل قول من أقواله وكل فعل من أفعاله. بل كان الناظر إليه إذا قويت فطنته وحسنت فراسته، يرى أخلاقه العالية تلوح في محياه ولو لم يتكلم أو يعمل. ومن هنا كان كثير ممن شرح الله صدورهم للإسلام لا يسألون رسول الله على ما قال برهاناً، فمنهم العشير (?) الذي عرفه بعظمة سيرته؛ ومنهم الغريب الذي عرفه بسيماه في وجهه) (?) كما حصل لعبد الله بن سلام.

ثم إن الكاذب لو استطاع أن يكذب على كل الناس؛ فإنه لن يكذب على نفسه ويصدِّقُ كذبه،

ومن هذه الأمثلة على هذه الحقيقة قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة:67] .

عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ (يُحْرَسُ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةَ (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ (فَأَخْرَجَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) رَأْسَهُ مِنْ الْقُبَّةِ، فَقَالَ لَهُمْ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ انْصَرِفُوا فَقَدْ عَصَمَنِي اللَّهُ» . (?) ، فهل هذا فعل كاذب، كيف لكاذب أن يطرد الذين يحرسونه بزعم أن الله سيعصمه، وهو يعلم في قرارة ذاته كذب نفسه، والعرب قد رمته عن قوس واحدة تتربص له في كل طريق، ألا يخاف أن يغتال؟!.

إن هذا الأمر لا يفعله إلا رجل صادق، يأوي إلى ركن شديد، واثق من أن الذي أرسله سيحميه من كل المخاطر.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015