وإنما تبدو أصالة هذا التعليم الأخلاقي في أجلى صورها، في طريقته التي سلكها لتقديم تلك الدروس المختلفة عن الماضين، وتقريبها، بحيث يصوغ تنوعها في وحدة لا تقبل الانفصام، ويسوقها على اختلافها في إطار من الاتفاق التام؛ وذلك لأنه بدأ بأن نزع عن الشرائع السابقة كل ما كان في ظاهر الأمر إفراطًا أو تفريطًا، وبعد أن حقق وضع التعادل في ميزانها، الذي كان يميل تارة إلى جانب، وأخرى إلى جانب آخر -دفعها جميعها في اتجاه واحد، ثم نفخ فيها من روح واحدة، بحيث صار حقًّا أن ينسب إليه بخاصة مجموع هذه الأخلاق.
وأعجب من ذلك وأعظم أصالة جانبه الخلاق، فليس يكفي -في الواقع- لكي نصف أخلاق القرآن, أن نقول: إنها حفظت تراث الأسلاف ودعمته، وإنها وفقت بين الآراء المختلفة التي فرقت أخلافهم، بل ينبغي أن نضيف أن الأخلاق القرآنية قد رفعت ذلكم البناء المقدس، وجملته، حين ضمت إليه فصولًا كاملة الجدة، رائعة التقدم، ختمت إلى الأبد العمل الأخلاقي1.
ولسوف يكون علينا في هذه الدراسة أن نعالج الأحكام العملية التي جاء بها القرآن في ذاتها، وفي مرحلتها النهائية من تطورها، وحسب القارئ بعد ذلك أن يتصفح النصوص التي نوردها في نهاية هذا الكتاب؛ ليدرك رحابة هذا النظام وجماله.
ولسوف يختلف منهجنا كثيرًا في عرض هذا الجانب عن المنهج الذي اتبعه سابقونا. فلما كنا -أولًا- لا نرى من اللازم أن نستوعب النصوص والآيات ذات الاتصال بالموضوع، فقد اكتفينا بأن سقنا بعضًا منها؛ ذا دلالة كافية