أمر الله موسى وأخاه هارون بتبشير المؤمنين فقال: ((وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ))، وذلك بقرب النصر والفرج، وعظيم الأجر والثواب عند الله سبحانه وتعالى.
فالأمور لا تقف عند طريقة واحدة، بل كلها تتقلب في أمور الدنيا، كلها تتقلب موتاً وحياةً، وقوةً وضعفاً، ورفعاً وخفضاً، وعزاً وذلاً، فالله عز وجل هو الذي يملك ذلك، وهو الذي يدبر، وهو الذي وعد المؤمنين بخير الدنيا والآخرة، فلا بد ألا يستطيل أحد فترة البلاء والمحنة، وهذا الأمر تبشير المؤمنين حتى لا تيئس النفوس، فإن اليأس من طول فترة البلاء ربما يدخل إلى القلوب، كما قال الله عز وجل عن الرسل وأتباعهم: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].
قال ابن عباس: كانوا بشراً، قال عز وجل: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110].
حتى الرسل أتتهم مثل هذه الخواطر من شدة البأس الذي أصابهم، فكان لا بد من البشارات التي يبشر الله بها أهل الإيمان، وهذا التبشير إنما يكون بوعد الله، وذلك الذي يوقظ معاني الإيمان في قلب المؤمن، فيؤمن بأن الله حق، وقوله حق، ووعده حق سبحانه وتعالى.
فلذلك إذا سُمِعت آيات الله عز وجل يُسْتَبشَر بها، وتذهب هذه الخواطر التي تقع في نفس الإنسان بوسوسة الشيطان، أو بوسوسة نفسه كذلك، فإن الرسل وقع في قلوبهم شيء من ذلك، ولكنه في حقهم كالبرق الخاطف، وسرعان ما يزول، ويعود إليهم الطيب النافع من الخير، وتعود الحياة، ويعود إليهم ما كانوا عليه من اليقين بوعد الله سبحانه وتعالى، وقدر الله ذلك ليكونوا أسوة للبشر فيما إذا أصابهم شيء من ذلك أن يفزعوا إلى حقائق الإيمان، وإلى تلاوة آيات الله عز وجل التي فيها الحكم القاطع، والنصر الجازم، لأن النصر آت من عند الله قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33].
وقال عز وجل: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173].
وهذا متكرر في كل الكتب السماوية، قال عز وجل: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء:105 - 106].
والزبور: اسم جنس للكتب التي تزبر، أي: تكتب من عند الله عز وجل من بعد الذكر الأول الذي هو اللوح المحفوظ، فلقد كتب الله في اللوح المحفوظ أن الأرض يرثها عباده الصالحون، وكتب ذلك في الكتب المنزلة من عنده إخباراً عما كتبه عز وجل في اللوح المحفوظ، وفي الكتاب الأول وفي الذكر الذي فيه كل شيء آت، وكل ما علم الله عز وجل وقوعه وهو واقع قطعاً.
فهذه البشارة تحيي في قلب المؤمن معاني الإيمان، وتجددها وتصقلها، وتؤكدها وتذهب عنه وساوس الشيطان والنفس الأمارة بالسوء التي تقول له: لست على شيء، وإن كان الأمر قد يزداد مع بعض الناس على حسب درجة الإيمان، وكلما اقتبس الإنسان من نور الأنبياء زال عنه سريعاً ما يلقيه الشيطان في نفسه، أو تلقيه نفسه الأمارة من يأس، أو استبطاء لوعد الله عز وجل، وتعجل لإجابة دعوته، فالله عز وجل نهانا عن الاستعجال، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف:35].
وقال: {فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم:84].
وذلك بأنه كيده متين سبحانه وتعالى، فلا نستبطئ وعد الله عز وجل، وذلك لأن القلوب تنمو وتكبر من خلال وقاية لها في فترات البلاء، والبلاء للمؤمن كقشرة البيضة للفرخ الذي يحيا به بعد مدة يسيرة بإذن الله، ولو أن الفرخ كسر قشر بيضته قبل اكتمال نموه لهلك، ولكن حين أحياه الله سبحانه باكتمال سمعه وبصره وقلبه وحياته في داخل القشرة، نقرها نقرتين، فانفضت كأن لم تكن، وخرج شيئاً جديداً بعد أن كان في صفرة وبياض، وصار حياً ناطقاً سميعاً بصيراً فسبحان الله! فكذلك قلب المؤمن يحتاج إلى أن ينمو ويكبر، والبلاء كالقشرة له، والبعض يظنه هلاكاً له، وليس كذلك، بل هو لحمايته، ولحفظه واكتمال نموه، فإذا جاء الحين الذي قدره الله، وليس ذلك إلى الفرخ، وليس إلى الناس، ليس إلا إلى الله، فالله هو الذي يقدر متى ينكسر ذلك القشر لمصلحة ذلك الفرخ، فكذلك البلاء قدره الله للمؤمن لمصلحته ولمنفعته وتكميل عبادته وكمال حياة قلبه وسمعه وبصره، ووعيه وعقله وإدراكه لحقائق هذا الوجود، فعلى ذلك يقدر الله ذلك البلاء ثم ينكسر في لحظة، ويتحول الأمر إلى شيء آخر بقدرته عز وجل.
لهذا كان لزاماً على المؤمنين أن يستبشروا بوعد الله، قال تعالى: ((وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ))، وأن يبشر بعضهم بعضاً، وأن يستبشروا باليقين بوعد الله، وهذا الذي تنال به الإمامة في الدين، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24].
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من الصابرين الموقنين.