الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: قال الله عز وجل: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ * وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ * إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران:151 - 155].
فقد نهى الله عز وجل في هذه الآيات البينات أهل الإيمان عن طاعة الكفار، وبين عاقبة طاعتهم، وأنها تؤدي إلى الردة والانقلاب على الأعقاب والخسران المبين، وبين سبحانه وتعالى من أسمائه وصفاته في هذا المقام ما تتعلق به قلوب المؤمنين؛ حتى لا يتكلوا على أنفسهم أو عملهم أو جهادهم، ولكن ليتكلوا على الله عز وجل، مولى المؤمنين وخير الناصرين، فهو الذي يتولى شأنهم بالإصلاح، وهو الذي يحفظهم ويعافيهم من طاعة الكفار.
قال ابن كثير رحمه الله: يحذر الله تعالى عباده المؤمنين عن طاعة الكافرين والمنافقين؛ فإن طاعتهم تورث الردى -يعني: الهلاك- في الدنيا والآخرة، ولهذا قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [آل عمران:149].
ثم أمرهم بطاعته، وموالاته، والاستعانة به، والتوكل عليه، فقال تعالى: {بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} [آل عمران:150].
- ومسألة طاعة الكفار من أخطر الأمور في حياة الناس، وذلك أن الكفر والنفاق والظلم والعدوان لا يتحقق إلا بطاعة طائفة من الناس لرءوس الكفر والنفاق، ولا يستقيم للكفار كيان ولا أمر إلا إذا وجد من يطيعهم، وقد ذكرنا ما ذكره ابن كثير رحمه الله في هذه الآية الكريمة: أن الله حذر عباده المؤمنين عن طاعة الكافرين والمنافقين، مع أن المنافقين لم يأت لهم ذكر، ولكن طاعة هؤلاء من أخطر الطاعات؛ لأن هؤلاء المنافقين يتدثرون بدثار الإسلام، ويبثون معاني الكفر والنفاق في المجتمع المسلم، ولذا كان التحذير من طاعة الكفرة والمنافقين متلازم، كما قال سبحانه وتعالى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان:24].
وقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الأحزاب:1].
والآيات في التحذير من طاعة الكفرة ومن متابعتهم كثيرة جداً في القرآن العظيم، منها قول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:25 - 28].
فبين سبحانه وتعالى سبب ردة هؤلاء الذين سول لهم الشيطان وأملى لهم، فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ} [محمد:26]، وهم الكفرة والمنافقون الذين يكرهون القرآن ويكرهون الالتزام بالإسلام، ويكرهون ما بعث به النبي عليه الصلاة والسلام، قال سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ} [محمد:26] فكيف بمن يطيعهم في الأمر كله؟ فإن طاعتهم في بعض الأمر أدت إلى الردة، ولذا قال: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} [محمد:25 - 26]، وذلك لأن النفاق كان في الزمن الماضي سراً وأصبح اليوم علانية.
قال حذيفة رضي الله عنه: (كان النفاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سراً، وأصبح اليوم علانية) فكيف لو رأى حذيفة رضي الله عنه ما يقع في أزماننا من الإعلان بطاعة الكفرة عياناً جهاراً نهاراً بلا خفاء، بل وتأكيد لزوم هذه الطاعة ولزوم هذه التبعية؟ نعوذ بالله من ذلك.
قال عز وجل: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [محمد:27]، فجزاء هؤلاء الذين يطيعون الكفرة في بعض الأمر أن تتوفاهم الملائكة بالعذاب والعياذ بالله! وقوله: ((يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ)) السبب: ((ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ)) فطاعة الكفرة في بعض الأمر تسخط الله، وهم بذلك يقعون في كراهية ما يرضاه الله، وهذا أمر متلازم؛ فإن من أطاع الكفرة فلا بد أن يكره ما يرضي الله، فهم يكرهون مرضاة الله عز وجل، يكرهون ما يحبه، ويحبون ما يكرهه سبحانه وتعالى بطاعة الكفار في بعض الأمر.
وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:28]، أي: أنه كانت لهم أعمال، وكانوا قد تابعوا الهدى، ثم زال ذلك، وحبط العمل بالنفاق والعياذ بالله! وبالردة التي سببها طاعة الكفار في بعض الأمر، والله سبحانه وتعالى إنما أمر بطاعة من يأمر بطاعة الله دون من يأمر بمعصية الله ولو كان مسلماً، فكيف إذا كان كافراً؟!