سلوك آخر: ((وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ)) فليس الجود بالمال فقط، بل بالسلوك والمعاملة، وكظم الغيظ أن تكظم غيظك ولا تنفذه فيمن تقدر على إنفاذه فيه ممن جعلك الله فوقهم منزلة أو سلطاناً، وليس الحلم أن تحلم مع الأقوياء، وأن تحلم مع من هو فوقك وتتأدب معه بأنواع الأدب، وأن تسيء الخلق وتتكبر وتستعلي على من هم تحتك، فهذا والعياذ بالله من أسوأ الأخلاق، بأن يكون الإنسان ضعيفاً مع القوي، ومتقوياً مع الضعفاء، وإنما كظم الغيظ: أن تكون قادراً على إنفاذه فتكظمه لله سبحانه وتعالى، وهذه سلوكيات مهمة لو تمسكنا بها لانحلت عنا معظم المشكلات في داخل البيوت وخارجها، وفي المعاملات المادية والاجتماعية وغيرها؛ لأن أكثر الناس إذا ركبهم الغيظ تسلط عليهم الشيطان، وتحكم فيهم أعظم التحكمات، ولذا لو نظرت إلى حال الناس في نزاعاتهم وصراعاتهم لوجدت أنواع البلايا والمصائب تخرج من أفواههم وأيديهم بسبب الغيظ والغضب، ولوجدت سفك الدماء، وقطع الأرحام، وأنواع السباب والفسوق والعصيان، وأحياناً قد تجد كفراً والعياذ بالله! -يغيظه غيره فيسب الدين- وقذف الآباء والأمهات، وسل السلاح على إخوانه المسلمين.
ومن ينظر في وسط المجتمعات الإسلامية يرى العجب مما يفعله الغضب والغيظ في أصحابه، وما يؤدي إلى المفاسد العظيمة التي تدمر المجتمع، وليس مجتمع الملتزمين بخال من ذلك، بل ما أكثر ما يقع -كما ذكرت- داخل المنازل من الخلافات الزوجية، وهذا أمر لا بد أن يكظم الإنسان فيه غيظه، فالأهل أولى الناس بحسن الخلق كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) فليس كل خطأ تراه في البيت يفجر عندك بركان الغضب والغيظ، بل لا بد أن تكظم غيظك، وكذا الأولاد والمربون، فلو استعملنا الحلم لزال عنا كثيراً من المنازعات والخصومات، وما يترتب على هذه الخصومات من ضياع هائل للأوقات، ومفاسد عظيمة تجر إلى غليان القلب -على الأقل- بأنواع الإرادات الفاسدة والعياذ بالله! قوله تعالى: ((وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ)) دخل عيينة بن حصن -وكان من المؤلفة قلوبهم- على عمر رضي الله عنه، وكان الحر بن قيس ابن أخيه من القراء، ومن أصحاب مجلس عمر رضي الله تعالى عنه، فقال عيينة بن حصن لابن أخيه: يا ابن أخي! لك وجه عند هذا الأمير فاستأذن لي عليه، وبراً بعمه استأذن له الحر بن قيس رضي الله تعالى عنهم، فأذن له، فدخل عليه عيينة فقال: هيه يا ابن الخطاب! والله ما تحكم فينا بالعدل، ولا تعطينا الجزل والعياذ بالله! فغضب عمر رضي الله تعالى عنه، فقال الحر بن قيس: يا أمير المؤمنين! إن الله عز وجل يقول: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] وهذا من الجاهلين، فما تجاوزها عمر رضي الله تعالى عنه، وكان وقافاً عند كتاب الله.
فتأمل هذا الغيظ الذي كظمه عمر وعفا عنه ولم يؤدبه! وقارن بين هذا الموقف وبين موقف أي شخص من كبراء أهل زماننا، ومن له سلطان على غيره دون سلطان أمير المؤمنين، أو دون سلطان رئيس الدولة بمراحل، وهل كان سيسمح بمثل هذا أو يعفو عمن فعل ذلك؟! ويكظم عمر غيظه في هذا المقام أمام الناس، وابن عيينة يقول له: هيه يا ابن الخطاب! فيقول لنفسه: يا ابن الخطاب! تصغيراً لـ عمر، وأمير المؤمنين لا يخاطب بهذا، ومن يحكم بالعدل إن لم يحكم به عمر رضي الله تعالى عنه؟! ومن يعطي بالجزل إن لم يعط عمر وقد فتحت الفتوحات العظيمة في زمنه؟! فهذا الأمر: كظم الغيظ والعفو عن الناس من صفات أهل الإيمان العظيمة التي يسهل بسببها التعامل معهم، ويقترب منهم الناس، وتفتح لهم قلوب الخلق، فيدخل فيها الإيمان بإذن الله تبارك وتعالى من خلال هذا السلوك الرائع، العفو عن الناس، ومن عفا عفا الله عز وجل عنه، كما قال تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22].