وعلى قدر ما يقع في قلوب أهل الإيمان من إيمان وإسلام وإحسان يرفع الله عز وجل عنهم تسلط عدوهم عليهم، وبقدر صدقهم وامتثالهم وتذللهم لله عز وجل بقدر ما يرفع الله عز وجل ما نزل بهم، والله سبحانه وتعالى يبتلي عباده ليسمع تضرعهم، قال عز وجل: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا) [الأنعام:43]، فالله عز وجل يبتلينا لنتضرع.
وقال عز وجل: ((وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} [الأنعام:42]، فلنفقه لماذا نبتلى بأنواع البلايا من الغلاء، والأوبئة، والمحن، وتسلط العدو، واحتلال البلاد، وأخذ الكبار والصغار والأولاد أسرى، وغير ذلك من أنواع البلايا، فإن ذلك لكي نزاد انكساراً لله ودعاء وتضرعاً له سبحانه وتعالى، فالكسير يجبره الله الجبار سبحانه وتعالى، ومن تجبر وطغى يكسره الجبار سبحانه وتعالى العزيز الانتقام.
والله عز وجل ينزل بأسه بالناس ليعودوا إليه عز وجل، فإن لم يعودوا وازدادوا طغياناً فتح عليهم أسباب الرخاء في الدنيا ثم يأخذهم بغتة، كما قال عز وجل: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:44 - 45].
فنحن بحاجة إلى الدعاء، وأن نقتدي بإبراهيم عليه السلام في الدعاء والتضرع إلى الله سبحانه وتعالى، وكمال التوكل عليه، وصدق اللجوء إليه حتى يرفع ما بأمتنا من أنواع البلايا والمحن.
وإبراهيم عليه السلام إمام في تصديق وعد الله سبحانه وتعالى، وفي إيمانه بأنه سميع الدعاء ولو طالت المدة، فإبراهيم سأل الله أن يهب له من الصالحين وهو مهاجر فقال: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:99 - 100].
ودعا إلى الله وهو شاب ومع ذلك قدر الله عز وجل أن تستجاب هذه الدعوة بعد كبر السن، فإنما وهب له إسماعيل وهو ابن بضع وثمانين سنة، ووهب له إسحاق بعد ذلك بثلاث عشرة سنة، وعند أهل الكتاب أنه بعد أن تجاوز المائة، فقال إبراهيم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [إبراهيم:39].
فاليقين بالله عز وجل والثقة به من أعظم أوصاف الأئمة في الدين، قال عز وجل: {قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:55 - 56].
فإياكم والقنوط -عباد الله- من رحمة الله، فقد قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى:28]، وذلك بعلمه وحكمته، {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى:27].
فهو عز وجل كما جعل في المطر حياة للبشر من بعد يأسهم، فكذلك في كل الكروب ينزل ما يغيث به الناس، وينشر رحمته من بعد أن يقنطوا وييأسوا، غير أن أهل الإيمان لا يقنطون من رحمة الله أبداً، وإنما يشفقون على أنفسهم من أن يصيبهم بسبب ذنوبهم عقاب الله عز وجل، ولكنهم لا يقنطون من رحمة الرحمن الرحيم، وكيف يقنطون وهم يرون آثار الرحمة تملأ هذا الكون؟! ورحمته سبحانه وسعت كل شيء، فلا تقنطوا من رحمة الله، وقولوا كما قال إبراهيم: ((وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ))، وهو سبحانه وتعالى يضيق الأرزاق؛ ليعلم الناس أن الأمور ليست بأيديهم، وأنه هو وحده سبحانه وتعالى الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر سبحانه وتعالى، وأنه بعباده الخبير البصير، وهو الذي يدبر الأمر بالعلم والحكمة، وبخبرته عز وجل وبصره بعباده، يعلم أحوالهم، ويسمع دعاءهم، ويعلم عواقب أمورهم، وهو الذي يرى عباده أزلين قنطين مشفقين يائسين فيضحك؛ لعلمه أن فرجهم قريب.
وهو سبحانه وتعالى يفعل ذلك ليسمع تضرعنا، وليرى ثقتنا بوعده وحسن ظننا به عز وجل، والله عند ظن عبده به كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأحسنوا ظنكم بالله، وثقوا في وعده، وهو سميع الدعاء، وإذا دعونا الله ونحن موقنون بذلك مع الضعف والانكسار كان ذلك من أعظم أسباب النصرة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وهل تنصرون إلا بضعفائكم) أي: بدعائهم وتضرعهم لله عز وجل، وكم من مستضعف يقسم على الله فيبره سبحانه وتعالى، كما قال صلى الله عليه وسلم: (رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره).
فلماذا كانت هذه الصفة المذكور أولاً؟ إنها لبيان ضعفه وانكساره، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره) أي: من أهل الإيمان الكمل الذين يوقنون بوعد الله، ولو أقسموا على الله في الدعاء لأجاب قسمهم.
فهذا المرء عند أهل الدنيا مستضعف فيهم ليس عنده من أسباب القوة الظاهرة ما يجعلهم يعتبرون بمنزلته، ولا يعتدون بمقامه.