من هذه المقامات -أي: مقامات العبودية- مقام الصبر في الدعوة إلى الله مع قلة المستجيبين، قال عز وجل: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت:26]، وهذا المقام مقام عظيم الأهمية في حياة المسلم، وفي حياة الداعي إلى الله عز وجل، فإبراهيم عليه السلام مع إمامته، ومع توفيته للدعوة إلى الله عز وجل حقها؛ لم يؤمن له من قومه إلا لوط عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وامرأته سارة التي تبعته على الحق، والله عز وجل قدر هذا الأمر للأنبياء جميعاً، قال سبحانه وتعالى عن نوح عليه السلام: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40]، وقال عز وجل: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116]، وقال سبحانه: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106].
فأكثر الخلق في غفلة، والناجون قلة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ينادي الله عز وجل يوم القيامة بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: يا آدم! أخرج بعث النار.
فيقول: من كلٍّ كم؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون).
وهذا الأمر يثمر ثمرة عظيمة الأهمية في حياة المؤمن، ومن ذلك أنه لا يزال خائفاً من الله عز وجل، قال تعالى: {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99]، ويعلم الخطر الذي يقدم عليه هو والناس أجمعون، هو خطر الوقوف في المحشر، ورؤية أهوال القيامة، والمرور على الصراط الذي هو أدق من الشعرة وأحد من السيف، من تحته النار يحطم بعضها بعضاً، قعرها سبعون خريفاً، يهوي فيها من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، وينجو من الألف واحد فقط من هؤلاء البشر، نسأل الله العافية! فإذا كان الأمر كذلك، وعلمنا قلة من ينجو، خفنا على أنفسنا من هذه المواقف، والخوف من أعظم أسباب الأمن عند الله عز وجل، فهو من أسباب دخول الجنة، كما أنه من أسباب التمكين في الأرض، قال عز وجل: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم:13 - 14]، وقال عز وجل: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46].
والخوف عبادة ضرورية لحياة القلب، فهو الذي يوقظه من غفلة الشهوات والضلالات، ويبعده عن أن يغره الغرور، وأن تغره الحياة الدنيا، وهذا من أعظم أسباب التوفيق في سيره إلى الله عز وجل، وهو الذي يدفعه حتى يستمر في سيره إلى الله.