أثبت القرآن أن العذاب يبدأ من لحظة الاحتضار، قال الله سبحانه وتعالى عن مؤمن آل فرعون: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:45 - 46].
هذه الآية صريحة جداً في أن هذا العرض قبل يوم القيامة؛ لأنه قال: ((النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا))، معنى (غدواً): أول النهار (وعشياً): آخره، كل يوم من أيام الدنيا وفرعون وجنوده وأتباعه وهامان معهم وكل الكفرة والظلمة الذين كانوا يعظمونه، والحاشية التي كانت معه ضد الإسلام وأهله، كل هؤلاء يومياً في الصبح وفي آخر النهار يعرضون على النار، ويقال لهم هذه النار التي سوف تصلونها، وهذا مصيركم الذي ينتظركم، وبعض هذه الأرواح تكون في النار فعلياً ويعرض عليها وهو فيها والعياذ بالله.
هذا قبل أن تقوم الساعة، ((وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ))، والعياذ بالله، وكما قال عز وجل عن قوم نوح: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} [نوح:25]، مع أن القيامة لم تقم بعد، لكن أدخلت الأرواح النار، (فلم يجدوا لهم من دون الله أنصاراً)، إذاً: أرواح قوم نوح في النار في هذا الوقت -والعياذ بالله- ويوم القيامة تسلك الأرواح في الأجساد بعد أن تعاد نشأة أخرى، ثم تخلد في نار جهنم، لكن بعض أرواح العصاة والمجرمين والكفار تدخل النار الآن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث يوم كسفت الشمس: (رأيت في النار عمرو بن لحي يجر قصبه في النار).
وعمرو بن لحي هو أول من ابتدع بدعة عبادة الأصنام في العرب، فعشرة قرون بعد إسماعيل عليه السلام كانت على التوحيد إلى أن جاء هذا الرجل الجاهل المطاع في قومه -أي: عمرو بن لحي الخزاعي - فكان أول من سيب السوائب، وبحر البحائر، وأتاه الشيطان في منامه وأمره أن يأتي صاحب جدة فيجد عنده أصناماً معدة محفورة، وهذه هي أصنام قوم نوح التي دفنها الطوفان، وأمره أن يخرجها في العرب، وأن يعطي كل قبيلة صنماً تعبده: وهي ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وصارت هذه الأصنام التي كانت لقوم نوح لقبائل العرب تعبدها، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم يجر أمعاءه في النار، فبدنه في الأرض وروحه جعلت في النار، وصورت بصورة رجل أمعاؤه خارج بطنه يجرجرها والعياذ بالله.
والواحد منا لو أصيب بقرحة طولها واحد سنتيمتر في المعدة لا يستطيع أن يأكل أو يشرب فكيف بمن هو في النار يجر فيها الأمعاء والعياذ بالله؟ ورأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا المقام في النار: (المرأة التي دخلت النار في هرة حبستها لا هي أطعمتها، ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض، فهي تنهشها إلى يوم القيامة) معنى هذا: أن روح الهرة في النار، والهرة هذه تعذب المرأة وتنهش منها وتنتقم، فما بالك بمن يعذبون بني آدم ظلماً وعدواناً؟! إذا كانت هذه المرأة التي عذبت قطة بأن حبستها وتركتها جائعة إلى أن ماتت فرآها النبي صلى الله عليه وسلم تعذب بها في النار فكيف بغيرها؟! ورأى النبي صلى الله عليه وسلم صاحب المحجن الذي كان يسرق الحجاج به، والمحجن: عصاة ملوية، يأخذ بها متاع الحاج، فإذا انتبه له قال: تعلق به محجني، وأنا لا أقصد شيئاً، ولكن عصاتي هي التي تعلقت في متاعك، وإن لم ينتبه إليه ذهب بما تعلق بمحجنه، فجعل في النار؛ لفعله هذا.
كما أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أرواحاً أخرى في النار، ولذلك نقول: إن الآية تدل دلالة واضحة على عذاب البرزخ، والآية هي: ((مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ))، أي: بسبب خطيئات قوم نوح ((أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا))، أي: عذبوا من الماء إلى النار مباشرة {فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا} [نوح:25].
وكما قال الله عز وجل في المنافقين: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} [التوبة:101]، فقوله: (سنعذبهم مرتين) أي: مرة في الدنيا ومرة في القبر، ثم بعد ذلك يكون لهم العذاب العظيم يوم القيامة، ففي الدنيا عذاب الأموال والأولاد كما قال سبحانه: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:55].
إذاً: فيمكن أن يكون بلاء الإنسان وعذابه بالمال والولد، فهو يجمع المال بالتعب، ويبقى في قلق عليها، ثم تحصل له مصيبة.
وكذا أولاده يتعب في تربيتهم، ثم يصيرون عاقين له، ومن ثم يفقدهم ويتألم بسببهم، ويبقى هذا الأمر سبباً للنكد والشقاء والعياذ بالله من حيث يطلب السعادة.
هذا عذاب الدنيا للمنافقين، والكفر دائماً يحول أي سبب للخير للشر.
والعذاب الثاني في القبر، والمرة الثالثة في قوله: ((ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ)).