القبر لا علم للإنسان به بالكلية إلا ما علمه الله عز وجل، وبعض الكفرة والمنافقين والزنادقة والذين يزعمون أنهم يأخذون الأمور بالعقل ينكرون عذاب القبر، ويقولون: من قال لكم: إن بعد الموت حياة في القبر؟ هذا كله خزعبلات، ووالله هذا ليس بالعقل؛ لأن العقل السليم يقول: أنا لا أعرف؛ لأني لم أجرب، وما نظرت.
العقل السليم يقول لمن لا يعرف: اسأل من يعرف، اسأل من قدر هذا الأمر على الإنسان من غير إرادة منه، ويسوقه رغماً عنه يوماً بعد يوم وليلة بعد ليلة، وتحمله الأيام والليالي إلى هذا المصير، اسأل الذي خلقه فأوجده فهو وحده الذي يعلم، وهو برحمته أرسل رسله، وأنزل كتبه، وأعلمنا بما يقع للإنسان عند احتضاره وبعده وبعد أن يدفن في قبره، فقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بما يكون من حياة الإنسان في القبر.
والقبر لا يلزم أن يكون هذه الحفرة بل المقصود به البرزخ الذي هو ما بين الموت والبعث؛ لأن القبر قد يكون هو الحفرة في التراب، وقد يكون في جوف السباع والأسماك، وقد يكون في أعماق البحار، وقد يكون ذرات الإنسان التي ذريت في الرياح جزء منها في البر وجزء منها في البحر، وكل ذرة من الذرات لها مكان تكون فيه يكون هو القبر لهذا الإنسان، فالمقصود بالقبر ليس الحفرة التي نعلمها، ولكن الحقيقة: أن حياة القبر المقصود بها فترة البرزخ، ما بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة، من ساعة الموت إلى لحظة القيام من القبور.
أخبرنا الله عز وجل بما يقع لروح الإنسان وبدنه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم بالتفصيل، قد يقول البعض: نحن لا نرى شيئاً مما تقولون، نحن نشاهد بعض الأموات يبقون مدة طويلة قبل أن يدفنوا، وربما أحرقوا كما في بعض الديانات الكافرة، ونرى بعض الناس قد يصلب ويبقى أياماً إلى أن يتعفن، وبعض الناس يظل في بيته محبوساً لا يدرى عن موته مدة طويلة، ونحن أحياناً نفتح بعض القبور فلا نجد ما تقولون، من أن أحداً يقعد ويسأل ويقال له كذا وكذا.
إذاً: فهذا شيء ليس موجوداً، وهذه أشياء لا يقبلها العقل.
نقول: فهل يقبل العقل الإنساني: أنه يسمع كل ما في الوجود؟ أم أن العقل الإنساني السليم يقول: إنه يوجد أصوات كثيرة جداً موجودة ولكن نحن لا نسمعها؟ العلم الحديث يقول: إن الأذن الإنسانية لها ذبذبة معينة، فما تحتها لا تسمعه وما فوقها لا تسمعه.
مثلاً جهاز الموجات فوق الصوتية: هذه الموجات وهي ذاهبة تصطدم بجسم وأنت لا تسمعها أليس كذلك؟ لأن ذبذبتها فوق مستوى الأذن الإنسانية، حتى أذن الكلاب عندها حاسة في السمع أقوى من الإنسان، لماذا؟ لأن المسافة التي ما بين هذه الذبذبة وهذه الذبذبة أوسع بكثير، فيسمع أصواتاً أقل من الذبذبة التي يسمعها الإنسان، ويسمع أصواتاً أعلى من الذبذبة التي يسمعها الإنسان.
في الوقت نفسه توجد موجات كهرومغناطيسية في هذا المكان، والدليل على ذلك: أننا لو أتينا بجهاز راديو فسوف نسمع صوت قناة القرآن الكريم ومحطة ثانية تغني، أليس كذلك؟ لكننا لا نسمع هذا لأننا لا نتملك جهازاً للاستقبال، والذي يستقبل الموجات بهذا التردد ذبذبات بالآلاف والملايين في الثانية الواحدة.
إذاً: فإذا كانت الأذن غير مهيئة لاستقبال هذه الأصوات فلا ننكرها، لكن بالتأكيد هي موجودة، بدليل أننا لو شغلنا جهاز الراديو، أو أتينا بجهاز تلفزيون فسوف يلتقط بالإريل الموجات الكهرومغناطيسية من قنوات متعددة ويحولها؛ لأن هذا الجهاز عنده قدرة على استقبال هذه الموجات، ومن ثم يحولها إلى صورة مرئية، وتنظر القناة الفلانية فيها كذا والقناة الفلانية فيها كذا والقناة الفضائية فيها كذا، وينقل لك شيئاً من أمريكا وآخر من اليابان وثالث من كوريا، ويأتي لك بالدنيا في هذا الوقت وأنت جالس، وهذا أمر موجود وإن كنا لا نراه، لماذا؟ لأننا لا نملك أجهزة الاستقبال التي تسمح بذلك.
العين الإنسانية لا تستقبل إلا الذبذبة التي هي واحد على عشرة من الثانية، الضوء يحدث خمسين ذبذبة في الثانية وأنت لا ترى ذلك، العين الإنسانية لا تدرك هذه الذبذبة؛ لأن الإنسان له طاقة محددة في الإدراك.
إذاً: فهناك أشياء كثيرة جداً موجودة ولكن لا يدركها العقل الإنساني، لكن لو وجد جهاز استقبال أو أتت أدلة على وجود الشيء حينها يقول الإنسان: لابد أقبلها.
نحن في هذا الوقت نصدق أن واحداً بالريموت يجعل باب السيارة يفتح، أليس كذلك؟ لوجود مؤثرات، ولكن أنت لا ترى هذه المؤثرات ولا تسمعها، فلماذا قبلت ذلك؟ وفي نفس الوقت رفضت أن يكون الميت يسمع ويتكلم وله أحوال معينة؟ فأنكرت أن يأتيه الملكان ويقعدانه ويسألانه، وقلت: هذا لا يقبله العقل، مع أن العقل غير السليم في الحقيقة هو الذي لا يقبل الدليل الصحيح، فلا بد أن يقبل الإنسان مثل هذا الخبر.
أمر آخر: وهو حال الإنسان أثناء النوم: لو وجد رجلان نائمان بجوار بعض.
هذا يرى شيئاً وهذا يرى شيئاً آخر، ثم لما يقوما يقول أحدهما: أنا رأيت الشيء الفلاني، وقال لي في المنام كذا، فيقول له صاحبه: أنت كذاب.
فهذا ما لا يقبله العقل، فقد كنت نائماً بجوارك وما رأيت شيئاً من هذا الذي تقوله.
فهل كلام الأول ممتنع في العقل السليم؟ لا.
كذلك الميت ما الذي أعلمك بأنه لا يرى شيئاً، ولا يسمع ولا ينظر، والنوم أخو الموت، بل النوم موت في الحقيقة ولكنه أصغر، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول بعد أن يستيقظ: (الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور)، ويقول إذا أصبح وإذا أمسى: (اللهم بك أصبحنا وبك أمسينا، وبك نحيا وبك نموت وإليك النشور) فالإنسان بلا شك لا بد أن يقبل عقله هذه الأمور، ويصدق بالفعل بأن فلاناً الصادق هذا الذي أخبرنا بأنه رأى في المنام كذا وكذا، وأن ذلك حصل له ذلك حقيقة في المنام، فما المانع من أن يكون الميت يرى ويسمع ويشاهد ويتكلم ولكننا لا نسمعه؟ والنبي صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا أن الأموات يعذبون عذاباً تسمعه البهائم، وهذا من الأمور المعجزة العلمية فعلاً؛ لأن البهائم آذانها تستقبل ما لا تستقبله أذن الإنسان، لكن البهائم لا تعبر ولا تستطيع أن تخبر بلغة معينة عما تجده من أصوات، وهذا من رحمة الله بالإنسان؛ لأنه لو كان يسمع كل ما في الوجود لكانت جميع محطات الإذاعة وأصوات البشر كلها الآن في أذنه في نفس اللحظة، فلا يمكنه حينها العيش فضلاً عن أن يسمع أيضاً ما في القبور، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لولا ألا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمعني)، ولو كانت الناس تخاف على موتاهم وما ترضى أن تدفنهم فلن تستقيم الحياة؛ لأن الأجساد ربما تتعفن ولا بد من الدفن، ولذلك من رحمة الله بالإنسان أن أعلمه بما يقع في القبور من غير أن يسمعه؛ لأنه لا يتحمل أن يسمع ذلك، ولا يقدر أن يراه، ولذلك كان من مصلحته أن يعلم ويصدق من غير أن يرى أو يسمع، وليكون أيضاً امتحاناً للإنسان في إيمانه، هل يؤمن بالله عز وجل وبرسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وبما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام على الخصوص تفصيلاً، أم يكذب ويقول: عقلي لا يقبل ذلك؟ مع أن القرآن قد دل، وإذا كان الإنسان يؤمن بالقرآن فلا بد أن يؤمن بما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام.