إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18].
أما بعد.
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فاعلموا -عباد الله- أن الله سبحانه وتعالى قد تفرد بالكمال، وأنه سبحانه له الأسماء الحسنى، أسماؤه كلها حسنى تدل على معاني الكمال والجلال، فهو ذو الجلال والإكرام، وكتب سبحانه وتعالى النقص والتقصير على كل من سواه، فأفضل الخلق محمد صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول في دعائه: (فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، أنت إلهي لا إله إلا أنت)، فكيف بمن دونه؟! وإذا كان سبحانه وتعالى قد تفرد بالكمال وحده لا شريك له فقد جعل كل بني آدم خطاءين كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)، ليس ذلك من وراثة الخطيئة كما يعتقد الكفرة النصارى الذين ينسبون إلى الله عز وجل ظلماً وزوراً وعدواناً وبهتاناً: أن بني آدم ورثوا خطيئة أبيهم آدم؛ ولذا لا يقبل منهم شيئاً إلا بالغداء، فيزعمون أنه لابد أن يكون ذبيحة إلهية تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وإنما خطيئة بني آدم من أفعالهم وكسبهم، فإن الله سبحانه وتعالى قدر ذلك وابتلاهم؛ لأنه هو التواب الرحيم؛ ولأنه سبحانه وتعالى غافر الذنب وقابل التوب؛ ولأنه سبحانه وتعالى يحب أن يغفر، فقدر سبحانه وتعالى بعلمه وحكمته على العباد أن يذنبوا بالليل والنهار؛ ليستغفروه فيغفر لهم؛ ليشهدوا نقصهم وعجزهم وفقرهم وحاجتهم إلى الله سبحانه وتعالى، فكما كسرهم بالحاجة والفقر إلى الربوبية في خلقهم، ورزقهم فهم فقراء إلى الله عز وجل في بداية أمرهم وفي نهايتهم، وفيما بين ذلك، فهم ما أوجدوا أنفسهم، ولا شهدوا خلقها، ولا خلق السماوات والأرض، وما أعانوا على ذلك، قال تعالى: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف:51]، بل هو سبحانه وتعالى تفرد بخلقهم ورزقهم فكانوا لذلك أذلة لربهم، يرى هذه الذلة وهذه الحاجة كل من طالع وشاهد بقلبه طبيعة الإنسان في كونه يحتاج إلى نفس يتنفسه، وليس بيده أن يأتي به، ولا أن يصرفه في بدنه، فهو يحتاج إلى ربه عز وجل في طعامه وشرابه ونومه ويقظته، وفي كل لحظات عمره وأنفاسه.
فكذلك كسرهم سبحانه وتعالى بما يبتليهم بأنواع المحن والبلايا ليعلمهم سبحانه وتعالى ضعفهم وعجزهم، وكسرهم سبحانه وتعالى بالذنوب لكي يعرفوا أيضاً عجزهم ونقصهم وتقصيرهم، ويذلوا له ذلة العبد المنكسر الذي يعلم أنه لا ملجأ له إلا أن يعود إلى ربه ومولاه وسيده الحق سبحانه وتعالى، رب العباد الذي أوجب على العباد جميعاً أن يتوبوا ويقروا، وأن يعترفوا بالذنوب، وإنما يكمل الإنسان بذلك كما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث الشفاعة أن الناس بسبب ما أصابهم من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون يذهبون إلى الأنبياء واحداً بعد واحد، يذهبون إلى آدم ثم إلى نوح ثم إلى إبراهيم ثم إلى موسى ثم يأتون عيسى عليه السلام، فيقول: لست لها، ولكن ائتوا محمداً صلى الله عليه وسلم عبداً غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فبكمال تعبده لله عز وجل وتوبته واعترافه صلى الله عليه وسلم بذنبه -وهو المعصوم- كمل عند الله عز وجل؛ لأن من مراتب العبودية: مرتبة الاعتراف بالذنب وشهود النقص والتقصير.
وأما شهود كمال النفس، وأنه هو الذي قام بأنواع الخير وصفات الكمال فهي نظرة إبليسية -نعوذ بالله منها- سببها العجب والكبر والغرور والعياذ بالله من ذلك، فإبليس هو الذي قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12]، فلم ينفعه إقراره بأن الله هو الذي خلقه وخلق آدم؛ لأنه لم يعترف ولم يعرف لله عز وجل الفضل، وإنما نسب الفضل إلى نفسه، وشهد كمالاً وهمياً لنفسه وزكاها، والله عز وجل هو الذي يزكي من يشاء، فكان في ذلك العجب المهلك والكبر المطغي الذي يزري بصاحبه ويصغره عند الله سبحانه وتعالى.
فإذا وجدت نفسك تعترف بالذنب ولم تصر على ما فعلت فأبشر، فإن الله عز وجل غفار {لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82]، وأما إذا كنت ترى من نفسك صفات الكمال، وترى أنك أعلى من غيرك وفوقهم؛ فهذا هو الخطر العظيم، وما أصابنا ما أصابنا من أنواع الكسر والذل إلا بظهور هذه الأمراض نعوذ بالله منها، ولابد للعبد المؤمن أن يكون على الدوام تواباً، معترفاً بذنبه، كما قال عز وجل: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135]، والعبد إذا أذنب ذنباً فقال: رب إني أذنبت ذنباً فاغفره لي يقول الله عز وجل: (علم عبدي أن له رباً يأخذ بالذنب ويغفر الذنب، قد غفرت لعبدي-حتى يفعل ذلك ثلاثاً ويقول الرب عز وجل في الثالثة: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، قد غفرت لعبدي فليفعل ما شاء)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وأتى بعباد يذنبون فيستغفرون؛ فيغفر الله لهم)، وهذا إنما يحصل بالانكسار والذل لله عز وجل بشهود المعاصي والذنوب، وربما كان العبد بالانكسار لله عز وجل بسبب الذنوب والإزراء على نفسه وشهود نفسه ظالماً أكمل حالاً منه قبل أن يذنب الذنب، وذلك أن الندم والتوبة والرجوع إلى الله عز وجل يرتفع العبد بها في مقامات العبودية التي يحبها الله سبحانه، وليس معنى ذلك أن يقدم على الذنب متجرئاً، فإن هذا في ذاته قادح في عودته وندمه، وقادح في انكساره، والذي يستهين بالذنب ويقدم عليه يحرم هذا الأمر غالباً إلا حين ينكسر لله سبحانه وتعالى.