لن يفر الإنسان من ألم في هذه الحياة كما ذكرنا، بل لا بد أن يصيبه من قرح، ولا بد أن يصيبه من تعب، ولا بد أن يصيبه من شقاء بدرجة ما، فليحتمل في سبيل الله أفضل من أن يحتمل في غير ذلك، وهو في معصية الله عز وجل ويجري عليه قدر الله سبحانه وتعالى، ولذا طريقة التفكير فيما يصيب الإنسان في سيره إلى الله عز وجل تجعله إما أن يستفيد من أيام المداولة بين الناس من كل فترة حياته، ومن كل أحوال سيره، فإنه يكون بين الشدة والرخاء، وبين العسر واليسر، وبين المنشط والمكره، فهو سوف تتقلب به الحياة، والله هو الذي يقلبها قال تعالى: ((إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ))، وتأمل هنا جيداً! فالله هو الذي يداول الأيام بين الناس، وليس الناس هم الذين يصنعون عسرهم ويسرهم، وليس الناس هم الذين يصنعون نصرهم وكسرهم، وليس الناس هم الذين يصنعون سعادتهم وشقاءهم، فقد كتب على ابن آدم قبل أن يولد أشقي هو أم سعيد، وذلك يشمل كل لحظات السعادة واللذات التي وجدها، وكل لحظات الشقاء والألم التي وجدها طول حياته فضلاً عن نهاية المطاف يوم القيامة، شقي هو في النار أم سعيد في الجنة.
فتلك الأيام يداولها الله بين الناس، قال تعالى: ((وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ))، فلا بد أن تستحضر هذا جيداً، فهو ليس من صنعك ولا من صنع أعدائك، وهم لا يملكون لك ضراً ولا نفعاً، إذ لم يملكوه لأنفسهم فكيف يملكونه لك؟! كيف يكون بأيديهم صنع المقادير نعوذ بالله كما يقول البعض: إن أوراق اللعبة كلها في أيديهم.
لا والله ما بأيديهم من شيء، هم يخوضون ويلعبون، ويظنون أنهم يملكون، وهم مربوبون مملوكون تحت قهر الله الواحد القهار، يداول عليهم عسرهم ويسرهم كما يداول علينا ذلك، ونحن معنا فضل الله عز وجل إذ أيام العسر عندنا فيها من أنواع اليسر ما هو أضعاف العسر، كما قال عز وجل: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:5 - 6].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يغلب عسر يسرين)، وذلك أن العسر معرف بالألف واللام، فهو عسر مكرر، والمذكور في الآية الثانية هو الذي في الأولى، وأما اليسر فمنكر، ولذلك يقتضي أنه يسر جديد {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:5].
وقال عز وجل: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق:7]، فأثناء وجود العسر يوجد يسران، وأثناء نزول البلاء وحصول المشقة يوجد أنواع من النعيم واللذات، والألم عند المؤمن مصحوب باللذة، فالمؤمن ما بيده من الدنيا فهو زائد عن الحاجة كما ذكرنا عن سلمان الفارسي أنه بكى عند موته، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: عهد إلينا رسول الله فقال: (ليكن بلغة أحدكم مثل زاد الراكب)، وحولي هذه الأساود، وإنما كان حوله المطهرة والقربة والنعلان، وقد قومت تركته بخمسة عشرة درهماً، ويرى نفسه أنه قد تجاوز الحاجة.
فمثل هذه الأمور العجيبة تجعل المؤمن دائماً يستحضر أن الله عز وجل يداول بين الناس، وأن الدنيا سوف تنتهي بألمها ولذتها، وبنعيمها وشقائها، وبحزنها وفرحها، وأنه يبقى بعد ذلك ما أعده الله عز وجل لأهل الإيمان، وما أعده الله لأهل الكفر من أنواع العذاب الدائم المستمر الذي لا يزول ولا يتحول، نعوذ بالله من ذلك! قال تعالى: ((إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ))، والله نحتاج جداً أن نتوقف كثيراً وطويلاً عند هذه الآيات لنعالج بها أمراض قلوبنا، ((وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)) يقلب الأحوال كما ذكرنا بين الناس، وهذه تشمل المؤمن والكافر وتشمل الناس عامة، وكما قال الشاعر: يوم لنا ويوم علينا ويوم نساء ويوم نسر وما من إنسان إلا وفي عمره لحظات من الألم واللذة! فلماذا قدر الله ذلك على أهل الإيمان الذين يحبهم ويكره مساءتهم؟ فخيرة الخلق أنبياء الله وأولياؤه يقدر الله عز وجل عليهم أنواع المحن والبلايا، وهو عز وجل يكره مساءتهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل في الحديث القدسي: (وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته).
فانظر إلى هذا الأمر العجيب لتعلم منزلة المؤمن عند الله عز وجل، فالمؤمن يكره الموت بالفطرة الإنسانية؛ لأن كلاً منا فيه فطرة بأن يهرب من الموت، أو من أي شيء مهلك، ولذا لو لسعتك كهرباء فإنك ستجد نفسك أنك بعدت عنها ورميت نفسك وابتعدت بأي طريق وأي وسيلة، فالله قدر الموت على المؤمن لأنه لا بد له أن ينتقل من هذه الدنيا، فالحياة لا تستمر، ولا بد أن ينال الخير العظيم الذي عند الله عز وجل بالموت، ومع ذلك الله يكره مساءة المؤمن؛ لأنه يسوءه الموت والله يكره مساءة المؤمن كما ترون فيما قبل ذلك، وفي الدنيا أنواع الآلام التي بعضها قد يفضل الناس الموت عليها، ولذا الناس يقولون لك: الموت أرحم، ومع ذلك يقدره الله على أهل الإيمان، وعلى أوليائه وأصفيائه من خلقه لما فيها من أنواع الحكم العظيمة، حكم بالغة لمصلحة أهل الإيمان قال تعالى: ((وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ))، وتأمل في الواو هذه ((وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ)) ليس (ليعلم) مباشرة بدون واو، إذاًَ: استقرت قاعدة: ((وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ))، على أنها جملة مستقلة.
((وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ)) أي: وبالإضافة إلى أن تشهد أن الله الذي يقدر، وأن الله الذي يداول الأيام بين الناس، وأن الله الذي يرفع من يشاء ويخفض من يشاء، ويؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، يحيي من يشاء، ويميت من يشاء، يعز من يشاء، ويذل من يشاء.
بالإضافة إلى شهود المشيئة والإرادة الإلهية والملك له سبحانه وتعالى تأمل مع ذلك الحكم البالغة، فالله له الملك وتشاهده من قوله: ((نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ))، وله الحمد وتشهدها من قوله: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:140 - 141].