وما يستوي الأعمى الكافر المنافق الذي لا يرى حقائق هذا الوجود، ولا يدري من الدنيا إلا مظاهرها، ولا يعلم حقيقة وجوده، ولا لماذا أوجده الله؟ وماذا ستكون نهايته؟ ولا يعلم من الدنيا إلا تحصيل شهواتها، وكيف يمكر بأصحابها، وكيف يكيد لمن يسير معه في طريقها، وكيف يتنافس مع غيره من أهل الدنيا على تلك الجيفة المنتنة.
فهو أعمى لا يرى حقائق التوحيد، ولا يعرف قدرة الله سبحانه وتعالى وعظمته وملكه وسلطانه، ولا يرى حقائق الإيمان باليوم الآخر، ولا سرعة انقضاء هذه الدنيا، ولا قرب الموت من أهلها في أي لحظة من اللحظات، ولا يرى ولا يعلم شيئاً عن حقائق البرزخ والقبر، وما يكون فيه الإنسان بعد رحيله عن هذه الحياة، ولا يبصر قرب القيامة والساعة التي أخبر الله عز وجل عن اقترابها فقال: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]، وقال: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1]، فهذا الأعمى لا يرى ذلك، ولا يعرف إلا تحصيل رئاسته وشهوته، فهو لا يرى من الدنيا إلا ذلك نعوذ بالله.
وأما البصير فهو المؤمن الذي أبصر معاني أسماء الله عز وجل وصفاته، فأحب الله عز وجل من كل قلبه، وأبصر نعم الله سبحانه وتعالى عليه، وأعظمها نعمة الإيمان والإسلام والإحسان والقرآن والرسول الكريم عليه الصلاة والسلام: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران:164].
فأعظم نعمة أنعم الله عز وجل بها على عبده هي هذه النعمة التي من أجلها وبسببها تتوقد منابع الحب لله عز وجل، ومنابع الرجاء في قلبه، فإن الحب ينبت على حواف أنهار المنن التي يراها الإنسان فيستحضرها فيستقي قلبه منها فيزداد تعظيماً وحباً لله عز وجل، ورجاءاً للقائه سبحانه وتعالى: {مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [العنكبوت:5]، إن الذي دفع المؤمنين بألا يزنوا بميزان أهل الدنيا، وأن يروا الدنيا صغيرة كما هي عند الله، وأن يروا حقائق الإيمان والدين واضحة كالشمس -هو يقينهم بلقاء الله وإيمانهم به.
وهكذا ينبت في قلوبهم الخوف بسبب رؤية نعمة الله عز وجل عليهم، ورؤية غضبه على المغضوب عليهم والضالين، وينبت الخوف من الله عز وجل أن يضل هذا العبد كما أضل غيره، فكم من الملايين من البشر أضلهم وأنت أنعم الله عز وجل عليك بالصلاة، والقيام، والصيام، وكم من ملايين البشر لا يعرفون شيئاً عن ذلك، ويعيشون حياتهم لا يدرون شيئاً عن نفحات هذا الشهر الكريم، وعما ينعم الله عز وجل به على عباده المؤمنين، لا أقول فقط الكفرة بل كثير من المسلمين الذين انصرفوا عن دينهم، وأعرضوا عن شرع ربهم، وانشغلوا بوسائل الإفساد التي تصب عليهم أنواع الأمراض والنجاسات والخبائث ليل نهار وهم منشغلون، وبعضهم قد يكون منتقداً، وبعضهم قد يكون موافقاً ومسروراً بما يرى من هذه القذارات ويسمع من هذه النجاسات، حتى إن أصحابها لا يستحيون من فعل الفواحش علانية أمام أعين الملايين، فإذا كان عقوبة قوم لوط الخسف والتدمير؛ لأنهم كانوا يأتون في ناديهم المنكر، ويأتون الفاحشة وهم يبصرون، فكيف بمن يفعلون ذلك أمام عشرات أو مئات الملايين من البشر؟! فأي فضيحة هذه التي فضحهم الله عز وجل بها! وأي خبث ذلك الذي نبع من قلوبهم الخبيثة، فانظر إلى نعم الله عز وجل عليك أما تخشى أن يضلك الله سبحانه كما أضل هؤلاء، وهو عز وجل مقلب القلوب، ويثبت قلوب عباده المؤمنين بالقول الثابت في الحياة الدنيا، فأنت تحتاج إلى التثبيت الآن كما تحتاجه في الآخرة، كما تحتاجه عندما تنزل إلى قبرك، بل هذا خير الخلق على الإطلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم محتاج إلى تثبيت الله، فقد قال الله عز وجل له: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [الإسراء:74 - 75]، فالله سبحانه ثبته، فإذا كان هو يحتاج إلى التثبيت فكيف بنا ونحن في الذنوب وفي التقصير ليلاً ونهاراً.