وأما المنطلق الثالث فهو منطلق الصبر؛ لأن الإنسان لابد وأن يصيبه في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى أنواع من الأذى، كما قال لقمان لابنه وهو يعظه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان:17]، فإن هناك من الأمور التي إذا أخذ الإنسان بها فقد أخذ بعزيمة عظيمة، وهذا من العزم الواجب؛ لأن الإنسان لابد أن يصيبه من أذى الناس، وسعة صدر المؤمن وانشراحه يقتضي أن يتحمل أذاهم ويكف أذاه عنهم؛ وذلك من البر بالخلق، وهو من أسباب نجاح الدعوة، أي: أن تواجه كل العقبات بالصبر، ولا تواجه السيئة بالسيئة.
فالنبي صلى الله عليه وسلم جاء من وصفه في التوراة أنه لا يقابل السيئة بمثلها، ولكن يعفو ويصفح، فقد قرأ عبد الله بن عمرو بن العاص في التوراة: محمد نبي أرسلته حرزاً للأميين، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، فيفتح به الله قلوباً غلفاً وآذاناً صماً وعيوناً عمياً، أو كما قال ربنا عز وجل في الكتب السابقة.
الغرض المقصود: أن الصبر يقتضي الثبات على الدعوة إلى الله عز وجل، فلا تترك الدعوة بمجرد أن يصيبك بلاء أو فتنة، وكأنك لا تعلم أن من سلك هذا الطريق فإنه سوف يطارد ويمتحن ويصاب، كما قال عز وجل لموسى عليه الصلاة والسلام: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} [الشعراء:52]، فعندما تعلم أنك متبع، وأنه ستكون هنالك مشاكل، فلابد أن تصبر إذاً، أما إذا كان الإنسان ينسحب من الدعوة بمجرد أن يصيبه شيء، فهذا لم يصبر ولا يصلح في الدعوة إلى الله.
والصبر على فتنة السراء أهم من الصبر على فتنة الضراء، فإن الإنسان قد تفتح عليه الدنيا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تفتح عليكم الدنيا فتنافسوها كما تنافسها من قبلكم، فتهلككم كما أهلكتهم)، وقال الله عز وجل: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35]، إذاً: فالخير فيه فتنة، وهو أن الإنسان تفتح عليه الدنيا ومطالبها الكثيرة، ولا يزال ينتقل من مطلب إلى مطلب ولا يزال يجره الشغل إلى أشغال حتى يترك الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فتكون الدنيا أكبر همه ومبلغ علمه.
هذا من أعظم المخاطر على الإنسان، ولذلك فالصبر أنواع: صبر على البلاء، وعن المعاصي وعن الدنيا المنفتحة، التي تشغل الإنسان وتجره إلى أعماق أمواجها التي قد تغرقه بعد حين، نسأل الله العفو والعافية.
فالصبر من أهم الأمور التي لابد أن يحرص المرء على أن يتصف بها، قال تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:146]، وقال سبحانه: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل:127]، فأنت تصبر بالله مستعينا، وتصبر لله عز وجل مخلصاً، وتصبر مع الله عز وجل دائراً مع أوامره الشرعية، فتعمل ما أمرت به؛ لأن الصبر قد يكون بعيداً عن أوامر الشرع، كما يفعل أصحاب المعاصي والملاهي في صبرهم واستمرارهم في أعمالهم مع بعدها عن الحكمة التي خلقوا من أجلها، فصاحب الحق أولى بالصبر منهم.
إذاً: فالصبر يكون في دائرة أوامر الله، فتصبر مع الله، وتصبر بالله، قال تعالى: ((وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ))، أي: تستعين بالله، وتعلم أنك لن تصبر إلا أن يصبرك الله سبحانه وتعالى، وتصبر لله مخلصاً، لا تصبر من أجل أن يقال عنك قوي متحمل جلد، بل تصبر لكي تأخذ الأجر من رب العباد سبحانه وتعالى، فتصبر مع الله، أي: تدور مع أوامره شرعاً، فتترك ما أمرت بتركه، وتفعل ما أمرت بفعله، ولا يلزم أن تعذب نفسك بما لم يرد في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
نسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، وأقول قولي هذا وأستغفر الله.